05 يونيو 2017
آباء الثورة المضادة
عندما نسمع عبارة "الربيع العربي"، تتبادر إلى أذهاننا الثورات والانتفاضات التي انطلقت قبل خمس سنوات ونيّف، وعلى الرغم من أن الكلمة تبدو غربية الطابع، ضمن الربط الإعلامي الغربي بين ما يجري في الوطن العربي وما جرى تاريخياً في أوروبا، إلا أنها راجت عربياً، وبات يستخدمها معظم من يتحفظون على حمولتها، وصار لها دلالة واضحة، ترتبط بالثورات التي قامت من دون عناوين أيديولوجية أو قيادة حزبية، بعدما تراكمت عوامل الفشل في الدول العربية، وتآكلت شرعية الأنظمة فيها. كان الربيع العربي لحظة انفجارٍ غير منظم، قاده من ليسوا جزءاً من المعادلة السياسية التقليدية، أي الذين لا ينتمون للنظام، أو أحزاب المعارضة المعروفة، وإنْ لحقت بهم تلك الأحزاب بعد ذلك، من دون أن تنجح في صبغ التحرك برؤيتها، أو بتشكيل قيادةٍ منفردةٍ أو توافقيةٍ لهذا الحراك الثوري.
لهذا الربيع أسبابٌ أدت إلى ولادته، كما أن له شعارات عامة، تتمثل في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وربما يكون مطلب الخبز أكثر إلحاحاً لقطاعاتٍ واسعةٍ من الجماهير المنتفضة، لكن الإعلام والمعارضة والثائرين الشباب زخَّموا جزئية مناهضة الاستبداد في هذا التحرّك، فيما أهملوا مسألة العدالة الاجتماعية، وتغيير نمط الاقتصاد السائد، بوصفه أساسياً في معالجة جذور الأزمة، لكن هذا بحثٌ آخر. صار للربيع عنوانٌ رئيسٌ هو الديمقراطية والتعدّدية، في مقابل الاستئثار وحكم الفرد.
كانت قفزةً نوعيةً أن يصبح التحول الديمقراطي مطلباً جماهيرياً، لكن تحقيقه احتاج إلى طليعةٍ ديمقراطيةٍ تحول شعارات الجماهير في الشارع إلى فعلٍ سياسيٍّ في المؤسسات، وتُحيل النظام القديم إلى التقاعد، وتترجم الثورة تحولاً جذرياً في عمل أجهزة الدولة. لم تتكوّن هذه الطليعة، واختلف المعارضون قبل وصولهم إلى الحكم، أو في أثناء المرحلة الانتقالية، وتسابقوا للاستقواء بالخارج، أو بفلول النظام القديم. كانت هذه انتعاشة ما عُرِف لاحقاً بالثورة المضادة.
صُدم النظام العربي القديم بالثورات، وكان في وضعٍ حرجٍ للغاية، لكنه استفاد من عجز المعارضة عن قيادة الجماهير الثائرة، وعدم قدرتها على إنتاج بديلٍ للنظام القديم، فعادت قوى هذا النظام للعمل، وألّبت الرأي العام على المعارضة والثورات إجمالاً، بحجّة أنها تنشر الفوضى. كانت دعاية الثورة المضادة تستند إلى توفير الأمن والاستقرار، مع أن الاستقرار اختفى بفعل ممارسات هذا النظام وفشله، وإعادة إنتاجه بكل خطاياه لا تضمن الاستقرار. في هذه الدعاية، استخدم النظام القديم كل شيء، من الحديث عن الإرهاب والعنف ونشر الخراب، إلى اتهام الثائرين بالعمالة لأميركا (وقد روّجت هذا الاتهام أكثر الأنظمة العربية قرباً من أميركا).
ليست الثورة المضادة مرادفاً للنظام العربي القديم، وإنما هي عملٌ مناقضٌ لثورات الربيع
العربي، تنخرط فيه مجموعات كبيرة من الناس أيضاً. ولكن، ضمن شعاراتٍ تعاكس مطالب الربيع العربي. هذا يعني أن مسمى الثورة المضادة لا ينحصر فقط في النظام القديم وبقاياه، بل يتعدّاه إلى فاعلين دخلوا على الخط ضد هذا النظام، فأعانوه في دعايته، إما باستخدام العنف ضد النظام، ومعه كل الفئات الاجتماعية المختلفة، كما فعلت الحركات الجهادية، أو بتعزيز صراعات الهوية في المجتمع، وهي التي تزيد الاستقطاب، وتحرف البوصلة عن معركة التغيير السياسي والاقتصادي، وتسهم في تمدّد جماعات العنف، وكذلك بطلب التدخلات الخارجية، وكل هذه الأمور تجتمع في مشاركتها المباشرة بتفكيك الدول والمجتمعات.
تنظيم داعش، وجبهة النصرة، وأشباههما من الحركات الجهادية، لاعبون أساسيون في معسكر الثورة المضادة، إذ إنهم ضد كل القيم والشعارات التي رفعتها جماهير الربيع العربي. وتلك النخب السياسية والثقافية التي أيدت هذه الحركات، وساقت المبرّرات لهذا التأييد، غلَّبت أحقادها ونزعتها الثأرية، من خصومها السياسيين، على شعارات الربيع العربي، والتمسّك بالتحول الديمقراطي، لأنها أيدت حركاتٍ تعادي الديمقراطية، وشجعت الاحتراب الأهلي، وتفكيك الدولة والمجتمع، حيث لا ديمقراطية، ولا عمل سياسي في هذه الحالة، ولم تتمكّن من تحييد الدولة والمجتمع عن النظام، بل ماثلت النظام في اعتباره هو والدولة واحداً، وزادت على ذلك بشرعنة استهداف المكونات الاجتماعية على الهوية، وحُشَّدت وعبئت على هذا الأساس. صار بقاء الدولة مطلباً أساسياً في حالة الانفلات والفوضى التي شجعها هؤلاء، ولم يعد أحدٌ يتحدث عن مطالب التغيير، ولا حتى الإصلاح التدريجي من الداخل، إذ أصبحت استعادة الأمن مقدمةً على كل شيء.
لا عجب أن معظم هذه النخب وأولئك الناشطين اندمجوا، لاحقاً، في مشروع القوى الرجعية التي قادت الثورة المضادة في الوطن العربي، ضمن صراعات النفوذ والمحاور في المنطقة، وعلى الضد من كل شعارات الربيع العربي، أملاً في أن تنصرهم هذه القوى في معاركهم الثأرية، وربما تقبل أن تصل جماعتهم إلى السلطة في أحد البلدان العربية، في إطار التناغم مع هذه القوى ومشروعها.
من ساهم في حرف مسار معركة التغيير في الوطن العربي لا يمكنه أن يدّعي تمثيل الربيع العربي، فضلاً عن التجرؤ على احتكار تمثيله، وحديث من يدعم تفتيت الدول والمجتمعات، عن الديمقراطية، يبدو نوعاً من الكوميديا السوداء. لقد أسهم كثيرون، بوعي أو من دون وعي، في تفوّق الثورة المضادة، فقد كان لها أكثر من أب.
لهذا الربيع أسبابٌ أدت إلى ولادته، كما أن له شعارات عامة، تتمثل في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وربما يكون مطلب الخبز أكثر إلحاحاً لقطاعاتٍ واسعةٍ من الجماهير المنتفضة، لكن الإعلام والمعارضة والثائرين الشباب زخَّموا جزئية مناهضة الاستبداد في هذا التحرّك، فيما أهملوا مسألة العدالة الاجتماعية، وتغيير نمط الاقتصاد السائد، بوصفه أساسياً في معالجة جذور الأزمة، لكن هذا بحثٌ آخر. صار للربيع عنوانٌ رئيسٌ هو الديمقراطية والتعدّدية، في مقابل الاستئثار وحكم الفرد.
كانت قفزةً نوعيةً أن يصبح التحول الديمقراطي مطلباً جماهيرياً، لكن تحقيقه احتاج إلى طليعةٍ ديمقراطيةٍ تحول شعارات الجماهير في الشارع إلى فعلٍ سياسيٍّ في المؤسسات، وتُحيل النظام القديم إلى التقاعد، وتترجم الثورة تحولاً جذرياً في عمل أجهزة الدولة. لم تتكوّن هذه الطليعة، واختلف المعارضون قبل وصولهم إلى الحكم، أو في أثناء المرحلة الانتقالية، وتسابقوا للاستقواء بالخارج، أو بفلول النظام القديم. كانت هذه انتعاشة ما عُرِف لاحقاً بالثورة المضادة.
صُدم النظام العربي القديم بالثورات، وكان في وضعٍ حرجٍ للغاية، لكنه استفاد من عجز المعارضة عن قيادة الجماهير الثائرة، وعدم قدرتها على إنتاج بديلٍ للنظام القديم، فعادت قوى هذا النظام للعمل، وألّبت الرأي العام على المعارضة والثورات إجمالاً، بحجّة أنها تنشر الفوضى. كانت دعاية الثورة المضادة تستند إلى توفير الأمن والاستقرار، مع أن الاستقرار اختفى بفعل ممارسات هذا النظام وفشله، وإعادة إنتاجه بكل خطاياه لا تضمن الاستقرار. في هذه الدعاية، استخدم النظام القديم كل شيء، من الحديث عن الإرهاب والعنف ونشر الخراب، إلى اتهام الثائرين بالعمالة لأميركا (وقد روّجت هذا الاتهام أكثر الأنظمة العربية قرباً من أميركا).
ليست الثورة المضادة مرادفاً للنظام العربي القديم، وإنما هي عملٌ مناقضٌ لثورات الربيع
تنظيم داعش، وجبهة النصرة، وأشباههما من الحركات الجهادية، لاعبون أساسيون في معسكر الثورة المضادة، إذ إنهم ضد كل القيم والشعارات التي رفعتها جماهير الربيع العربي. وتلك النخب السياسية والثقافية التي أيدت هذه الحركات، وساقت المبرّرات لهذا التأييد، غلَّبت أحقادها ونزعتها الثأرية، من خصومها السياسيين، على شعارات الربيع العربي، والتمسّك بالتحول الديمقراطي، لأنها أيدت حركاتٍ تعادي الديمقراطية، وشجعت الاحتراب الأهلي، وتفكيك الدولة والمجتمع، حيث لا ديمقراطية، ولا عمل سياسي في هذه الحالة، ولم تتمكّن من تحييد الدولة والمجتمع عن النظام، بل ماثلت النظام في اعتباره هو والدولة واحداً، وزادت على ذلك بشرعنة استهداف المكونات الاجتماعية على الهوية، وحُشَّدت وعبئت على هذا الأساس. صار بقاء الدولة مطلباً أساسياً في حالة الانفلات والفوضى التي شجعها هؤلاء، ولم يعد أحدٌ يتحدث عن مطالب التغيير، ولا حتى الإصلاح التدريجي من الداخل، إذ أصبحت استعادة الأمن مقدمةً على كل شيء.
لا عجب أن معظم هذه النخب وأولئك الناشطين اندمجوا، لاحقاً، في مشروع القوى الرجعية التي قادت الثورة المضادة في الوطن العربي، ضمن صراعات النفوذ والمحاور في المنطقة، وعلى الضد من كل شعارات الربيع العربي، أملاً في أن تنصرهم هذه القوى في معاركهم الثأرية، وربما تقبل أن تصل جماعتهم إلى السلطة في أحد البلدان العربية، في إطار التناغم مع هذه القوى ومشروعها.
من ساهم في حرف مسار معركة التغيير في الوطن العربي لا يمكنه أن يدّعي تمثيل الربيع العربي، فضلاً عن التجرؤ على احتكار تمثيله، وحديث من يدعم تفتيت الدول والمجتمعات، عن الديمقراطية، يبدو نوعاً من الكوميديا السوداء. لقد أسهم كثيرون، بوعي أو من دون وعي، في تفوّق الثورة المضادة، فقد كان لها أكثر من أب.