03 أكتوبر 2024
آخر أعداء إسرائيل
لم يبق أعداء لإسرائيل غير ما يسمّونه "التطرف الإسلامي". ومن يراقب الخطاب الإعلامي الصهيوني يلحظ، من دون عناء، أن هناك موجة نرجسية عارمة، تترجم الشعور بالقوة المطلقة والاغترار بالعظمة، فليس ثمّة جيوش عربية "مؤهلة" لمواجهة إسرائيل، بل ليس ثمّة أي "نياتٍ" لأي جيش عربي للتفكير بمثل هذا الهاجس، وكل الحديث يدور عن حالة عداء شعبية للمشروع الصهيوني، بعد أن شاركت قوى رسمية ودول عربية بحملة إطفاء الحرائق التي اجتاحت فلسطين المحتلة، ضمن جهدٍ دولي "أثبت" لكتاب إسرائيل أنها لا تعيش في عزلةٍ، بل كانت الحرائق فرصةً ذهبيةً للتأكيد على حرص العالم على "سلامتها".
أكثر من ذلك، ثمّة حديث مكثف وليس سرياً، عن تحالف إسرائيل مع منظومة الدول التي تسمى "سنّية" ليس لمواجهة المشروع "الفارسي" التوسّعي في المنطقة، بل أيضا لمواجهة تمدّد "خطر التطرّف الإسلامي"؟
العدو الوحيد الذي لم يُسلّم بعد بالعدوان، ولم يرفع الراية البيضاء، هو نفسه هدف التحريض الإسرائيلي الدائم، ولا يترك كاتب أو مسؤول إسرائيلي أي فرصةٍ سانحةٍ، من دون التحريض على هذا "الهدف"، وتصويب البندقية باتجاهه، على أمل قتله؟
يدور الحديث ظاهراً عن التطرّف الإسلامي، وفي باطن الحديث المقصود هو "الإسلامي" (بدون كلمة تطرّف!) على أي نحوٍ كان، حتى ولو كان مبادرةً لرفع الأذان من كنائس فلسطين وبيوت المقدسيين، ردا على "قانون المؤذن" الذي سيحظر مكبرات الصوت في الأقصى الشريف، ومساجد المدن "المختلطة" في فلسطين 1948، في حالة إقراره طبعا.
بسبب هذا التحريض الدائم، قامت حساسية كبرى في نفوس الناس في بلادنا تجاه أي مسٍّ بالمناهج المدرسية، حتى ولو جاء هذا تحت أي عنوان، كـ "التطوير" مثلاً، لأن كل ما جرى حتى الآن ملاحقة أي "أنفاسٍ" جهاديةٍ أو مفاهيم إسلامية قد يُشتم منها "شبهة" القوة والعنفوان والتحريض عليهما، بوصفهما "عنفاً" مرفوضاً، قد يتطوّر إلى "إرهاب". وللإرهاب هنا حكاية أخرى معقدة كثيرا، فقد غدت هذه الكلمة مصطلحاً فضفاضاً يُلبِسه الخطاب الإعلامي والسياسي لكل فعل يُراد شيطنته وإخراجه عن القانون، ونال الإسلام حظاً وافراً من هذا المصطلح، بمناسبة وبغير مناسبة، ونادراً ما تحدّث أحدهم عن إرهاب يهودي أو مسيحي أو بوذي، فيما يتحدثون بكثافة وأريحية عن "الإرهاب الإسلامي".
من الجديد في مسلسل التحريض، مقال في أكثر صحف إسرائيل عنصرية ويمينية وتحريضاً
(إسرائيل اليوم) لكاتب يحمل الدكتوراه اسمه أفرايم هراره، نشر في 28 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، بعنوان: "يجب إطفاء جمر التحريض الإسلامي"، يعود بالمصطلح اللعين إلى صدر الإسلام، وأيام النبي محمد صلى الله عليه وسلم، واصفاً موجة الحرائق التي اجتاحت فلسطين المحتلة أخيراً بأنها "شكل جديد وجماعي من الإرهاب ضد دولة اليهود. والهدف منها، مثل الطرق السابقة، هو القضاء على دولة إسرائيل"! ثم يعود إلى التاريخ، في روايةٍ أخرى، يهودية بحتة، فيقول "إن استخدام الحرائق من أجل محاربة العدو بدأ مع مؤسّس الإسلام: النبي محمد أحرق حقل نخيل لقبيلة يهودية سكنت في المدينة. وقد اعتبر هذا الأمر جريمة أخطر من القتل، حيث كان التمر مصدر الطعام الأهم. ولكن النبي محمد حصل على موافقة الله على هذا العمل. ويظهر هذا الأمر في الآيات القرآنية. ومنذ ذلك الحين، فإن إحراق ممتلكات العدو جزء من الجهاد. وهذا مسموح في القانون الإسلامي. ومنذئذٍ، أصبح من المسموح إحراق أعداء الإسلام".
الحديث عنا عن واقعة شهيرة في التاريخ الإسلامي، شغلت المؤرخين كثيرا، وأثيرت حولها شبهات وأكاذيب كثيرة، وهي عن حرق نخيل لقبيلة بني النضير اليهودية، ولمن لا يعلم الحقيقة، يبدو له وكأن "الإرهاب الإسلامي" ضاربٌ في أعماق التاريخ، والحقيقة أن قصة حرق هذا النخيل جاءت بعد خيانةٍ عظمى، صدرت من هذه القبيلة التي كانت جزءاً من مواطني دولة المدينة التي أسسها النبي عليه الصلاة والسلام، ووضع لها دستوراً (صحيفة المدينة) عرف بدستور المدينة، وهو ينصّ، فيما ينص عليه، على المساواة المطلقة بين سكان المدينة/ الدولة، بمن فيها اليهود، ومعاقبة من يحنث بالميثاق، وكل ما حصل فيما بعد أنه تمت معاقبة اليهود، حينما خانوا، فقاتلهم النبي، لا لأنهم يهود، أو لأنهم يخالفونه بالدين، ولكن لأنهم نكثوا بالعهد، وتحديدا حينما حاولت قبيلة بني النضير اغتيال "رئيس الدولة" النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وخالفت بذلك العهد الذي ينظم حياة الناس في الدولة الوليدة. والرواية الصحيحة لواقعة حرق النخيل، كما وردت في كتاب "أخلاق الحروب في السنة النبوية" لمؤلفه راغب السرجاني، أنه بعد فشل قبيلة بني النضير في محاولة اغتيال النبي عليه الصلاة والسلام، قرّر إخراج بني النضير إلى خارج المدينة، لكنَّهم رفضوا الخروج، وأرسل رئيسهم حيي بن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: "إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك"، بل تحالف اليهود مع المنافقين بالمدينة بقيادة عبد الله بن أبي بن سلول، وتعاهدوا جميعاً على قتال المسلمين، فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بُدًّا من القتال، وبالفعل أخذ جيشه وحاصر حصون بني النضير. استمر الحصار ستة أيام، وفي رواية خمس عشرة ليلة، وفي أثناء هذا الحصار كان اليهود يرمون المسلمين بالنبل والحجارة والسهام من خلف أسوار الحصون، وساعدهم على استمرار الرمي وجود النخيل خارج الحصون، فكان يحميهم، وفي الوقت نفسه،
يعوق الرؤية للمسلمين، وصعب الموقف على المسلمين، وكان من الممكن أن يستمر الحصار فترات طويلة جدًا، لولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة بإحراق النخيل خارج الحصون. كان الهدف واضحًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو لم يكن يريد بحرقه الإفساد في الأرض، كما يدَّعون، إنما أراد بذلك هدفين رئيسيين. الأول فتح المجال للسهام الإسلامية أن تصل إلى داخل الحصون اليهودية، وتجنب الرمي اليهودي الذي كان يعتمد على الاختفاء خلف هذا النخيل، أي أن الأمر كان ضرورةً عسكرية بحتة. الهدف الثاني هو استفزاز اليهود للخروج من الحصون ومحاربة المسلمين وجهًا لوجه، فالحصار صعبٌ على المسلمين، كما على اليهود، والبقاء طويلاً أمام الحصون ليس أمرًا آمنًا، خصوصاً في وجود المنافقين، بل تقول الروايات الصحيحة إنه لم يتم حرق عدد كبير من النخيل، بل أنهم قَطَعُوا مِنْ نَخِيلهمْ وَأَحْرَقُوا سِتَّ نَخَلات فقط، وفي رواية أخرى: قَطَعُوا نَخْلَة وَأَحْرَقُوا نَخْلَة! فالعدد قليل جدًا، ولو كان القطع بغرض النكاية والتشفي، أو بغرض الإفساد في الأرض، لكان المقطوع أضعاف ذلك حتمًا.
وكما يعمد اليهود إلى بث روايتهم المشوهة للتاريخ، يستمرون ومن يشايعهم اليوم بالتحريض على آخر "أعدائهم"، بوصفهم محتلين ومفسدين في الأرض، بعد أن بدا أن الدنيا كلها دانت لهم بالطاعة والولاء، وهم قبل غيرهم يعلمون أن اجتثاث الهوية الحضارية والثقافية لأمة الإسلام، ضربٌ من العبث، لكنهم لا يكلون ولا يملون في محاربتها، لإطفاء جذوتها، على حد تعبير إفرايم هراره، في "إسرائيل اليوم".
أكثر من ذلك، ثمّة حديث مكثف وليس سرياً، عن تحالف إسرائيل مع منظومة الدول التي تسمى "سنّية" ليس لمواجهة المشروع "الفارسي" التوسّعي في المنطقة، بل أيضا لمواجهة تمدّد "خطر التطرّف الإسلامي"؟
العدو الوحيد الذي لم يُسلّم بعد بالعدوان، ولم يرفع الراية البيضاء، هو نفسه هدف التحريض الإسرائيلي الدائم، ولا يترك كاتب أو مسؤول إسرائيلي أي فرصةٍ سانحةٍ، من دون التحريض على هذا "الهدف"، وتصويب البندقية باتجاهه، على أمل قتله؟
يدور الحديث ظاهراً عن التطرّف الإسلامي، وفي باطن الحديث المقصود هو "الإسلامي" (بدون كلمة تطرّف!) على أي نحوٍ كان، حتى ولو كان مبادرةً لرفع الأذان من كنائس فلسطين وبيوت المقدسيين، ردا على "قانون المؤذن" الذي سيحظر مكبرات الصوت في الأقصى الشريف، ومساجد المدن "المختلطة" في فلسطين 1948، في حالة إقراره طبعا.
بسبب هذا التحريض الدائم، قامت حساسية كبرى في نفوس الناس في بلادنا تجاه أي مسٍّ بالمناهج المدرسية، حتى ولو جاء هذا تحت أي عنوان، كـ "التطوير" مثلاً، لأن كل ما جرى حتى الآن ملاحقة أي "أنفاسٍ" جهاديةٍ أو مفاهيم إسلامية قد يُشتم منها "شبهة" القوة والعنفوان والتحريض عليهما، بوصفهما "عنفاً" مرفوضاً، قد يتطوّر إلى "إرهاب". وللإرهاب هنا حكاية أخرى معقدة كثيرا، فقد غدت هذه الكلمة مصطلحاً فضفاضاً يُلبِسه الخطاب الإعلامي والسياسي لكل فعل يُراد شيطنته وإخراجه عن القانون، ونال الإسلام حظاً وافراً من هذا المصطلح، بمناسبة وبغير مناسبة، ونادراً ما تحدّث أحدهم عن إرهاب يهودي أو مسيحي أو بوذي، فيما يتحدثون بكثافة وأريحية عن "الإرهاب الإسلامي".
من الجديد في مسلسل التحريض، مقال في أكثر صحف إسرائيل عنصرية ويمينية وتحريضاً
الحديث عنا عن واقعة شهيرة في التاريخ الإسلامي، شغلت المؤرخين كثيرا، وأثيرت حولها شبهات وأكاذيب كثيرة، وهي عن حرق نخيل لقبيلة بني النضير اليهودية، ولمن لا يعلم الحقيقة، يبدو له وكأن "الإرهاب الإسلامي" ضاربٌ في أعماق التاريخ، والحقيقة أن قصة حرق هذا النخيل جاءت بعد خيانةٍ عظمى، صدرت من هذه القبيلة التي كانت جزءاً من مواطني دولة المدينة التي أسسها النبي عليه الصلاة والسلام، ووضع لها دستوراً (صحيفة المدينة) عرف بدستور المدينة، وهو ينصّ، فيما ينص عليه، على المساواة المطلقة بين سكان المدينة/ الدولة، بمن فيها اليهود، ومعاقبة من يحنث بالميثاق، وكل ما حصل فيما بعد أنه تمت معاقبة اليهود، حينما خانوا، فقاتلهم النبي، لا لأنهم يهود، أو لأنهم يخالفونه بالدين، ولكن لأنهم نكثوا بالعهد، وتحديدا حينما حاولت قبيلة بني النضير اغتيال "رئيس الدولة" النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وخالفت بذلك العهد الذي ينظم حياة الناس في الدولة الوليدة. والرواية الصحيحة لواقعة حرق النخيل، كما وردت في كتاب "أخلاق الحروب في السنة النبوية" لمؤلفه راغب السرجاني، أنه بعد فشل قبيلة بني النضير في محاولة اغتيال النبي عليه الصلاة والسلام، قرّر إخراج بني النضير إلى خارج المدينة، لكنَّهم رفضوا الخروج، وأرسل رئيسهم حيي بن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: "إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك"، بل تحالف اليهود مع المنافقين بالمدينة بقيادة عبد الله بن أبي بن سلول، وتعاهدوا جميعاً على قتال المسلمين، فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بُدًّا من القتال، وبالفعل أخذ جيشه وحاصر حصون بني النضير. استمر الحصار ستة أيام، وفي رواية خمس عشرة ليلة، وفي أثناء هذا الحصار كان اليهود يرمون المسلمين بالنبل والحجارة والسهام من خلف أسوار الحصون، وساعدهم على استمرار الرمي وجود النخيل خارج الحصون، فكان يحميهم، وفي الوقت نفسه،
وكما يعمد اليهود إلى بث روايتهم المشوهة للتاريخ، يستمرون ومن يشايعهم اليوم بالتحريض على آخر "أعدائهم"، بوصفهم محتلين ومفسدين في الأرض، بعد أن بدا أن الدنيا كلها دانت لهم بالطاعة والولاء، وهم قبل غيرهم يعلمون أن اجتثاث الهوية الحضارية والثقافية لأمة الإسلام، ضربٌ من العبث، لكنهم لا يكلون ولا يملون في محاربتها، لإطفاء جذوتها، على حد تعبير إفرايم هراره، في "إسرائيل اليوم".