عبر شرفة منزله الواقع في الحي، يصوّر المخرج بكاميرا صغيرة مسيرة حياة العائلة التي تقيم في الحي منذ عقود طويلة، قبل أن تضطرّ أخيراً إلى حزم حقائبها عام 2015 قاصدةً بيروت، في توثيقٍ لتهجير سكّان الحي وكيف سُرقت أرواح الكثير من أبنائه.
ومن خلال مصير العائلة، نلمح كيف يجري إفراغ جميع منازل الحي من ساكنيها شيئاً فشيئاً، لتتحوّل إلى أطلال مهجورة وخالية من أناس اقتُلعوا من جذورهم، نتيجة القصف بالبراميل والصواريخ والقذائف من جهة، والخوف من اقتراب تنظيم "داعش" من جهة أخرى.
في بداية الفيلم، ترصد الكاميرا أناساً يقفون على شرفات منازلهم، ومن على تلك الشرفات يبصرون، على مقربة منهم، بيوتاً تحترق بفعل غارات الطيران. تظهر في الكادر الواحد بيوت نُزعِت عنها الأبواب والنوافذ، وتُركِت على حالها لتعبث بها الريح. ولا يكاد حال شوارع الحيّ يختلف كثيراً عن بيوتها، فهي أيضاً خاوية وشبه مهجورة، تقطع مساراتها إطارات سوداء وحواجز أمنية.
في مجمل هذه المشهدية السردية، ثمّة ما يوحي بالرعب والخوف، فالحيّ بأسره صار فريسة للسكون والعتمة، تلتهمه وحشة مفزعة. ومع مرور سيارة تحمل تابوتاً، وقد عُلِّقت عليها صورة المرأة المتوفاة، نستدرك على الفور أنّ كل المصائر المطروحة والممكنة في هذا الحي، ستقود بالضرورة إلى مأساة مرعبة، أمام خيارات محدودة جداً. بل هما خياران لا ثالث لهما، إما البقاء في الحي، وهذا سيؤدي حتماً إلى الموت والفناء، وإما الهجرة والرحيل عنه، وهذا بدوره سيؤدي إلى تكرار مأساة الشتات التي صاحبت الشعب الأرمني منذ عقود طويلة.
كاميرا كابرئليان لصيقة جداً بالأحداث، إذ أمكن لها التقاط أدق تفاصيل الحيّ، وهو غارق في الفجيعة، وقد طغت عليه أيضاً حالة من الاختناق، خصوصاً حين تستولي عليه العتمة، فتظهر كتلة من نار تلتهم بيوتاً قريبة، ما يشي بالجحيم الجاثم على صدر المكان وسكانه، الأمر الذي يجعلنا نتحسّس هذا الجحيم وكأنّه جحيمنا، ليضغط على صدورنا إلى حدّ الاختناق. فنحن هنا أمام حارة يكتسحها الخراب والهلاك، على مرأى من أبصارنا، فتنتقل إلينا وطأة الإحساس بالعدمية واللاجدوى وعدم القدرة على فعل شيء.
كما يتّضح، فقد تعمّد كابرئليان ألا يضع حدوداً زمنية لفيلمه، ليجعله يبدو وكأنه زمنٌ أبدي ممتدّ وموصولٌ بالماضي والحاضر والمستقبل، وفيه يعيد المخرج نسخ المأساة الأرمنية رغم مرور ما يقارب القرنين على المجازر الجماعية التي ارتُكبت بحقهم. وكأن العائلة الأرمنية في فيلم "منازل بلا ابواب"، تجسّد ما حل بمصير الشعب الأرمني من قبل، فمصير التهجير والشتات والقتل، هو نفسه الذي سبق وعاشته آلاف العائلات الأرمنية من قبل. إنه استمرار للتاريخ الفجائعي لهذا الشعب.
يربط الفيلم، الذي عُرض في عدّة مهرجانات، الماضي بالحاضر بألوان العتمة والرعب، وأكثر ما يميز آليته السردية، هو أنه جاء خالياً من الشروحات والتعليقات، إلا فيما ندر، ربما كي تحمل المشهدية البصرية على عاتقها رواية الحكايات بكامل عريها وواقعيتها.