يبدو التفكير بالمستقبل للماضي الفلسطيني مشروعاً غير مألوف، كما هو غير مألوف التفكير بتسجيل تاريخ ثقافي/ بصري لشعب وأرض تعرّضا للطمس والنسيان، وإن ظل مدرجاً في سجلات وأوراق أكاديمية.
أكثر من ذلك، أن يكون صاحب هذا التفكير عالم آثار أميركي نشأ مبشراً لوثرياً، وجاء إلى فلسطين باحثاً في ظلال ما يدعى علم الآثار التوراتي، أي ذلك "العلم" الذي ينطلق من فرضية أن حكايات التوراة الدينية هي "تاريخ" يتمتع بكل ما يتمتع به علم التاريخ من كمال، ثم يتحوّل إلى باحث في علم آثار حقيقي غير وهمي هو علم الآثار الفلسطيني، فيؤسس من موقعه كأستاذ في "جامعة بير زيت" معهداً لهذا الغرض هو الأول من نوعه في الوطن العربي.
صاحب هذه الفكرة غير المألوفة حتى في الوسط الفلسطيني هو آلبرت غلوك (1925- 1992) الذي مرّت في هذا العام الذكرى الخامسة والعشرون لاغتياله وهو يهم ذات مساءٍ بدخول بيت مايا الفارابي، مساعدته في أبحاثه، قادماً من مقرّ عمله في الجامعة.
من قام باغتياله، وفق ما جاء في كتاب الصحافي البريطاني إدوارد فوكس المعنون "فجر فلسطين: مقتل د.آلبرت غلوك وعلم آثار الأرض المقدسة" (2001)، شخصٌ مقنّع أطلق عليه الرصاص عن قرب من بندقية من بنادق الجيش الإسرائيلي ثلاث مرات، في المرة الأولى والثانية أصاب ظهره ورقبته، وفي المرة الثالثة تقدم إليه وأطلق الرصاص على قلبه مباشرة.
وحسب أقوال زوجه، تأخرت الشرطة الإسرائيلية ولم تحضر إلا بعد ثلاث ساعات، ولم تهتم بالتحقيق في موقع الجريمة على غير العادة، ورجّح فوكس، بناءً على هذه الأدلة الظرفية؛ التأخر في حضور الشرطة، وعدم إجراء تحقيق في مقتل مواطن أميركي حتى من قبل السلطات الأميركية، ونوعية الرصاص، ولوحات السيارة الإسرائيلية التي نقلت القاتل بعيداً عن مسرح الجريمة، أن الجاني هو أحد أفراد فرق الموت الإسرائيلية.
بالطبع لم يُحدَّد حتى الآن من وقف وراء اغتيال هذا العالم، إلا أن سيرة حياته العملية يمكن أن تشير إلى السبب وإلى المتهم الحقيقي، أي صاحب المصلحة في قتل عالم آثار تميّزَ عن كل زملائه بالسعي إلى تحرير الماضي الفلسطيني من قبضة الخطاب التوراتي الخانقة، بما يتضمنه هذا من نتائج سياسية لصالح الفلسطينيين، وهذا بحد ذاته سببٌ يدفع أصحاب هذا الخطاب، أو من يستأجرون، إلى اغتياله.
جاء في سيرة حياته أنه وصل إلى فلسطين في عام 1962، ليمارس مهمته كـ "عالم آثار توراتي"، إلا أن الأعوام السبعة عشر التي عاشها في ما كان يَعتقد أنها أرض التوراة، حولته إلى متمرد على إله التوراة التقليدي، المتدخل في الشؤون الإنسانية، الذي صوّرته له تربيته الدينية اللوثرية، لأنه اكتشف أن ما تعلّم في أيام شبابه على أنها أرض التوراة كانت في الحقيقة أرض صراع عربي/إسرائيلي، أرض مشهد قرن من الكراهية والظلم وسفك الدماء.
وبعد مرور بضع سنوات بدأ يدير ظهره لهذا الهوس المقنّع بقناع العلم الذي جاء إلى فلسطين ليخدمه، المسمى علم الآثار التوراتي، ومرّ بتحوّل شخصي عميق، أصبح معه عالماً من نوع مختلف كلياً؛ عالم آثار يستخدم علمه ومهارته في الكشف عن تاريخ بديل لفلسطين يستمده من الوقائع الأثرية لا من حكايات التوراة. وعنى هذا في النتيجة اكتشاف تاريخ للفلسطينيين وليس تاريخاً لإسرائيل قديمة تبين له، كما سيتبين لعلماء آخرين مثل البريطاني كيث وايتلام (1996) والأميركي توماس تومسن (1999)، أنه تاريخ مختلق.
ويمكن تقدير متضمنات هذا الكشف حين نعلم أن علم الآثار كان أحد الركائز التي استندت إليها الحركة الصهيونية في استدراج المخيلة الدولية، والغربية منها بخاصة، إلى محو الوجود الفلسطيني من تاريخ فلسطين في حاضرها وماضيها. تنسب الكاتبة كاثرن ليمي، من جامعة نبراسكا الأميركية، إلى الصهيوني لص الآثار إليعازر سوكينك قوله أمام ما تدعى "جمعية استكشاف إسرائيل" في عام 1948: "هنا في الشرق لا يوجد سوى شعب واحد، هو الشعب اليهودي، يمتلك ارتباطاً بالماضي والعصور القديمة والآثار التي يتم اكتشافها كل يوم. إن الواقع الأثري يغرس شعوراً في قلب الفرد والجمهور بأن كل شبر من هذه الأرض ملكنا، ومن واجبنا الدفاع عنه والقتال من أجله".
ولم يكن هذا سوى تكرار حرفي لما ذكره رئيس أساقفة يورك أمام أول اجتماع عام لمؤسسي "صندوق استكشاف فلسطين" البريطاني في عام 1865، حين خاطب التجمع قائلاً ".. هذا البلد فلسطين ينتمي لكم ولي. إنه لنا من حيث الجوهر. لقد أعطي لأب إسرائيل بالكلمات التالية: "امشِ في الأرض طولاً وعرضاً لأنني سأعطيها لك"، ونحن نريد أن نمشي في طول فلسطين وعرضها لأن هذه الأرض أعطيت لنا..".
عمل غلوك، الذي قام على تنقيبات في المواقع الأثرية، مضافاً إليها الدراسة الأناسية والتاريخية للمجتمع الفلسطيني، كان على العكس من كل هذا تماماً. وتلقي عناوين مقالاته التي نشرها، قبل أن يصدر كتابه الذي ساهم في إعداده وليد الخالدي "ذاك كل ما يتبقى: القرى الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل في العام 1948 واقتلعت سكانها" (1992)، الضوء على نهجه ونقده لما يدعى علم الآثار التوراتي.
في مقالة له في عام 1986 حملت عنوان "علم الآثار التوراتي: علم جديد يبرز"، أكد الاختلافات الجذرية بين علم الآثار الفلسطيني وعلم اللاهوتيين المختلق. وتناول في مقالة "نحن منقسمون: مشكلة فلسطين" (1987) الخطاب الدعائي الغربي، وإبادة الثقافة الفلسطينية والسكان الفلسطينيين، وروى بالتفصيل الطريقة التي أنشأت فيها بريطانيا، حتى قبل وعد بلفور، كيان دولة يهودية في فلسطين.
ويمكن اعتبار مقالته "التحامل الثقافي في علم الآثار" (1987)، ومقالة "علم الآثار وسيلة نجاة ثقافية: مستقبل الماضي الفلسطيني" (1994)، أكثر مقالاته أهمية. شرحت الأولى أسباب التحيز الغربي ضد فلسطين العربية، وخاصة منذ بداية حملات التنقيب عن الآثار، ووضعت الخطوط المنهجية لمواجهة وفضح هذا التحيز.
واستفاضت الثانية في توضيح كيف أن أربع قوى عملت على صياغة قصة فلسطين المهيمنة اليوم، هي على التوالي، الموروث التوراتي كما فسرته الأمم الغربية لتربي عليه شبانها في إطار تراث يهودي/مسيحي.. والثانية هي التنافس الأوروبي للسيطرة على ساحل شرق المتوسط بعامة وعلى فلسطين بخاصة، خدمة للحاجات العسكرية والاقتصادية والثقافية الغربية.. والثالثة قتل أكبر عدد ممكن من أصحاب البلد الفلسطينيين، من أجل توفير مكان للمستعمرين اليهود القادمين من أوروبا.. والرابعة اختفاء التراث الفلسطيني، الأدلة الملموسة، بسبب مصادرة الإسرائيليين للمصادر الثقافية؛ المكتبات والمتاحف، وتدمير الملكية الثقافية ممثلة بالقرى، وهذا التدمير الأخير كان أثره خطيراً، لأن صلة الفلسطينيين بماضيهم وحاضرهم على أوسع نطاق تسري بوساطة مئات القرى، وعدد من البلدات والمدن التي قامت على أرض فلسطين منذ أزمان بعيدة.