21 نوفمبر 2024
أبعد من محمد الزواري
فوجئ الرأي العام العربي بنعي كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، مهندسَ الطيران التونسي، محمد الزواري، الذي اغتيل أمام منزله في محافظة صفاقس في تونس في 15 ديسمبر/ كانون الأول الجاري. واتهم بيان لها جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) بارتكاب الجريمة، وأكد أن الراحل ''التحق بصفوفها قبل عشر سنوات''، وكان ''أحد قادتها الذين أشرفوا على مشروع طائرات الأبابيل التي كان لها دورها في حرب عام 2014 التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة''. وجاء الاعتراف الإسرائيلي الضمني بأن اغتيال الزواري مصلحة إسرائيلية، بسبب علاقة الرجل بحركة حماس، يوضح الصورة أكثر، ولتكتمل دائرة هذه المفاجأة الحافلة بالدلالات.
ويعيد إقدامُ كتائب القسام على كشف علاقتها بالمهندس التونسي، واستفادتها من خبرته العلمية والتكنولوجية في تطوير قدراتها العسكرية المختلفة، إلى الواجهة ملف العلماء العرب الذين اغتالتهم إسرائيل، طوال عقود، ضمن استراتيجية محكمة ومدروسة لمنع البلدان العربية من امتلاك مقومات النهوض العلمي، وضمان تفوقها علمياً وتكنولوجياً وعسكريا.
فمنذ قيامها عام 1948، وضعت نصب عينيها تعقب هؤلاء العلماء وملاحقتهم وتصفيتهم، مخافة أن يتحوّلوا إلى أحد موارد القوة لدى هذه الدولة العربية أو تلك. وتمكّن "الموساد" من اغتيال عدد منهم في عملياتٍ استخباراتيةٍ على درجة عالية من الحرفية. ويظل اغتيال عالم الذرة المصري، يحيى المشد، في 1980 في باريس، أبرز تلك الاغتيالات، بسبب إسهامه في وضع أسس المشروع النوري العراقي، وتشغيل مفاعل تموز الذي دمرته إسرائيل عام 1981، في سعيها آنذاك إلى منع العراق من امتلاك عناصر القوة بعد خروج مصر من الصراع، عقب توقيعها اتفاقية كامب ديفيد، هذا من دون أن ننسى عشرات العلماء العراقيين الذي تعرّضوا للتصفية في ظروف غامضة، بعد انهيار نظام الرئيس صدام حسين واحتلال العراق عام 2003.
لم يكن استهداف "الموساد" المهندسَ التونسي، على الأرجح، بسبب ما قدمه لكتائب القسام من
خبرة علمية وتكنولوجية، ولكن بسبب مخاوف إسرائيل من امتدادات هذه الخبرة وإسهامها المحتمل في إنجاز تحوّل نوعي في القدرات العسكرية للقسام، وتأثير ذلك على ميزان القوى معها، خصوصاً أن الأمر يتعلق بتصنيع طائرات بدون طيار وتطويرها، الأمر الذي يمكن أن يهدّد التفوق الجوي الإسرائيلي، ولو على المدى البعيد.
من ناحية أخرى، يستدعي اغتيال محمد الزواري البعد الاستخباراتي في الصراع، ولسنا في حاجةٍ للتذكير بدور (الموساد) في ''التخلص'' من القيادات التاريخية البارزة للثورة الفلسطينية، وكان لذلك بالغ الأثر على الخيارات العسكرية والسياسية للأخيرة في العقود الثلاثة الماضية. وفي حالة الزواري، فإن تساؤلاتٍ كثيرةً تحيط باغتياله، لمعظمها صلة بمسؤوليةٍ مفترضة لأجهزة الأمن التونسية، في ضوء مؤشراتٍ دالةٍ مثل استقالة مدير الأمن التونسي ساعات قليلة بعد الحادث، وتصريح المتحدث باسم النيابة العامة في صفاقس بأن الأمر يتعلق بقضية حق عام، ومن السابق لأوانه إضفاء الصبغة الإرهابية على الاغتيال، وبثّ قناة إسرائيلية تقريرا إخباريا من أمام بيت الراحل، مع العلم أن لجهاز الموساد سوابقَ معلومةً في استهداف القيادات الفلسطينية على الأراضي التونسية، أبرزها قصف مقر منظمة التحرير في حمام الشط عام 1985، واغتيال خليل الوزير (أبو جهاد) في بيته في تونس العاصمة عام 1988، واغتيال كل من صلاح خلف (أبو إياد) وهايل عبد الحميد (أبو الهول) وأبو محمد العمري، عام 1991 في ضواحي قرطاج.
على الرغم من ذلك، يصعب التخمينُ في اتجاهٍ ما في غياب معطيات وقرائن واضحة تعزّز هذه الفرضية أو تلك، وإنْ للأمر صلة، على ما يبدو، بخللٍ أمني مردُّهُ إكراهات المرحلة الانتقالية في تونس، والتي قد يكون من تمظهراتها صراعُ أجنحةٍ داخل هذه الأجهزة بين العناصر التي أفرزتها الثورة وأخرى محسوبة على نظام بن علي. هذا الصراعُ الذي عادة ما تعيشه البلدان التي تمر بمخاض التحوّل الديمقراطي، داخل مؤسساتها وأجهزتها المختلفة، غالبا ما يفرز فراغاً أمنياً بسبب التقصير وسوء التقدير، وحتى التواطؤ في بعض الأحيان. ولا يُستبعد أن يكون مُدبرو اغتيال الزواري قد استغلوا هذا الفراغ للتخطيط لجريمتهم وتنفيذها بكل هدوء، لا سيما في ظل ما يتردّد عن اختراقات استخباراتية إسرائيلية واسعة لتونس.
ينضاف الشهيد محمد الزواري إلى مصطفى مشرفة، وسميرة موسى، وغسان كنفاني، ويحيى المشد، ورمَّال حسن رمَّال، وغيرهم من كفاءات علمية وثقافية عربية امتدّت إليها يد الغدر الصهيوني. ولن يكون آخر عالم عربي تتخلص منه إسرائيل التي شيدت سرديتها على توظيف كل شيء يمكنه أن يحمي ''حقها'' في الوجود، ويُثبت مشروعها الاستيطاني والاستعماري، في وقتٍ يعجز فيه العرب عن حماية كفاءاتهم داخل أوطانهم المستباحة.
ويعيد إقدامُ كتائب القسام على كشف علاقتها بالمهندس التونسي، واستفادتها من خبرته العلمية والتكنولوجية في تطوير قدراتها العسكرية المختلفة، إلى الواجهة ملف العلماء العرب الذين اغتالتهم إسرائيل، طوال عقود، ضمن استراتيجية محكمة ومدروسة لمنع البلدان العربية من امتلاك مقومات النهوض العلمي، وضمان تفوقها علمياً وتكنولوجياً وعسكريا.
فمنذ قيامها عام 1948، وضعت نصب عينيها تعقب هؤلاء العلماء وملاحقتهم وتصفيتهم، مخافة أن يتحوّلوا إلى أحد موارد القوة لدى هذه الدولة العربية أو تلك. وتمكّن "الموساد" من اغتيال عدد منهم في عملياتٍ استخباراتيةٍ على درجة عالية من الحرفية. ويظل اغتيال عالم الذرة المصري، يحيى المشد، في 1980 في باريس، أبرز تلك الاغتيالات، بسبب إسهامه في وضع أسس المشروع النوري العراقي، وتشغيل مفاعل تموز الذي دمرته إسرائيل عام 1981، في سعيها آنذاك إلى منع العراق من امتلاك عناصر القوة بعد خروج مصر من الصراع، عقب توقيعها اتفاقية كامب ديفيد، هذا من دون أن ننسى عشرات العلماء العراقيين الذي تعرّضوا للتصفية في ظروف غامضة، بعد انهيار نظام الرئيس صدام حسين واحتلال العراق عام 2003.
لم يكن استهداف "الموساد" المهندسَ التونسي، على الأرجح، بسبب ما قدمه لكتائب القسام من
من ناحية أخرى، يستدعي اغتيال محمد الزواري البعد الاستخباراتي في الصراع، ولسنا في حاجةٍ للتذكير بدور (الموساد) في ''التخلص'' من القيادات التاريخية البارزة للثورة الفلسطينية، وكان لذلك بالغ الأثر على الخيارات العسكرية والسياسية للأخيرة في العقود الثلاثة الماضية. وفي حالة الزواري، فإن تساؤلاتٍ كثيرةً تحيط باغتياله، لمعظمها صلة بمسؤوليةٍ مفترضة لأجهزة الأمن التونسية، في ضوء مؤشراتٍ دالةٍ مثل استقالة مدير الأمن التونسي ساعات قليلة بعد الحادث، وتصريح المتحدث باسم النيابة العامة في صفاقس بأن الأمر يتعلق بقضية حق عام، ومن السابق لأوانه إضفاء الصبغة الإرهابية على الاغتيال، وبثّ قناة إسرائيلية تقريرا إخباريا من أمام بيت الراحل، مع العلم أن لجهاز الموساد سوابقَ معلومةً في استهداف القيادات الفلسطينية على الأراضي التونسية، أبرزها قصف مقر منظمة التحرير في حمام الشط عام 1985، واغتيال خليل الوزير (أبو جهاد) في بيته في تونس العاصمة عام 1988، واغتيال كل من صلاح خلف (أبو إياد) وهايل عبد الحميد (أبو الهول) وأبو محمد العمري، عام 1991 في ضواحي قرطاج.
على الرغم من ذلك، يصعب التخمينُ في اتجاهٍ ما في غياب معطيات وقرائن واضحة تعزّز هذه الفرضية أو تلك، وإنْ للأمر صلة، على ما يبدو، بخللٍ أمني مردُّهُ إكراهات المرحلة الانتقالية في تونس، والتي قد يكون من تمظهراتها صراعُ أجنحةٍ داخل هذه الأجهزة بين العناصر التي أفرزتها الثورة وأخرى محسوبة على نظام بن علي. هذا الصراعُ الذي عادة ما تعيشه البلدان التي تمر بمخاض التحوّل الديمقراطي، داخل مؤسساتها وأجهزتها المختلفة، غالبا ما يفرز فراغاً أمنياً بسبب التقصير وسوء التقدير، وحتى التواطؤ في بعض الأحيان. ولا يُستبعد أن يكون مُدبرو اغتيال الزواري قد استغلوا هذا الفراغ للتخطيط لجريمتهم وتنفيذها بكل هدوء، لا سيما في ظل ما يتردّد عن اختراقات استخباراتية إسرائيلية واسعة لتونس.
ينضاف الشهيد محمد الزواري إلى مصطفى مشرفة، وسميرة موسى، وغسان كنفاني، ويحيى المشد، ورمَّال حسن رمَّال، وغيرهم من كفاءات علمية وثقافية عربية امتدّت إليها يد الغدر الصهيوني. ولن يكون آخر عالم عربي تتخلص منه إسرائيل التي شيدت سرديتها على توظيف كل شيء يمكنه أن يحمي ''حقها'' في الوجود، ويُثبت مشروعها الاستيطاني والاستعماري، في وقتٍ يعجز فيه العرب عن حماية كفاءاتهم داخل أوطانهم المستباحة.