10 ابريل 2019
أبعد من مريم وآيات في مصر والسودان
عندما تُفلس النُظُم الديكتاتورية، وتفشل في تمكين المواطنين من تحقيق النجاح، تلجأ إلى التكسّب الإعلامي من الحالات المتحقّقة بطريقٍ غير طريقها. فبالإضافة إلى نسبة هذا النجاح إليها، تعمل على لفت الأنظار إلى أنّ سوء الظروف الاقتصادية والكبت وتردّي التعليم والظروف المعيشية لا تحول دون تحقيقه.
تُشابه حياة مريم، الطالبة المصرية المتفوقة في امتحانات الثانوية العامة، حياة أسر مصريةٍ كثيرة، تغالب وتصارع من أجل البقاء بهذه الإشراقات، في ظل سياسات اقتصادية، فرضها نظام عبد الفتاح السيسي، ويشدُّ أنشوطتها حول رقابهم يوماً بعد يوم.
وتشابه حياة آيات، الطالبة السودانية التي تفوقت في امتحانات الشهادة الثانوية أيضاً، وفي التوقيت نفسه، من داخل سجن مدينة الأبُيّض غرب السودان، حياة كثيرين ممن يقضون عقوباتٍ نتيجة العسر المالي لإعالة أسرهم بسبب عدم السداد. زادت في قصة آيات جرعة القهر واللامعقولية، عندما أقامت حكومة الولاية الاحتفال بإطلاق سراحها مع 20 نزيلاً آخرين، دعا الوالي بقية النزلاء إلى أن يحذوا حذوها، لأنّ الإفراج عنهم سيكون بشرط التفوق الأكاديمي. وهنا يتضح أنّ خلل سياسات الدولة يتجاوز مداها، بتقصيرها عن احتياجات المواطنين في سجن البلد الكبير، كتقصيرها الذي أوصل هؤلاء إلى مخابئ السجون، وأغلبهم في أعمارهم الغضّة.
احتفى إعلام النظامين في البلدين بهذا التفوّق، وعلى الرغم من الاستحقاق، فإن استغلال
الحالتين يعبّر عن إحدى سياسات تقديم البدائل، لكسب التعاطف الشعبي. وتجد هذه القصص الواقعية بيئتها عند الشعوب العاطفية المتسامحة، مثل شعبي وادي النيل، حيث تنجح النُظم الحاكمة في استلاب المفاهيم بتزيين مفهوم التقشّف مثلاً في استماتةٍ واضحة للربط بين النجاح والمعاناة، من دون الرجوع إلى حكمة الموروث الفلسفي الإنساني الذي يفسّر ذلك في حالاتٍ نادرة، لا تتوفّر إلّا عند الأنبياء والأصفياء.
هذان نموذجان فقط من مجموعة نماذج لحالات أخرى. ربما يكون السبب في هذا الحصر أنّ النموذجين هما العنصران الأوضح في حملة الاستقطاب الحكومي، عندما يكون النظام غارقا في اعتصار الشعب واستغلاله. وعندما يبلغ إعلامه من المكر الحدّ الذي يزيّن فيه التقشف وتفوّق السجن، فلا تحسّ الحكومة بأيّ شعور وطني أو قومي، ولا تتردّد في قمع أي مظهرٍ، يمكن أن يخرج الشعب من الشعور بالغبن مع هذا التصور.
يزيد هذا الإحساس المختلط من تجسّد معاناة شعبٍ يظهر أفراده بوجوههم المتعبة المرتسمة فيها هموم مثل خريطة الوطن المثخن بالآلام. أجسادهم منهكة من تأثير السعي إلى رزقهم، حائرون وتائهون بين تحقيق أحلامهم ومصادرة كل أوجه الفرح بإثارة الشغب المفتعل في وجود من يتوقع منهم حماية الفرح.
عندما تتفاقم سلطة الدولة، ينشأ أبناؤها على الاتكال، وعندما تتعاظم بالشكل الذي تهتم فيه بترسيخ قواعدها وثرائها أكثر من اهتمامها بالشعب، يعوّل الناس على أنفسهم ويتركونها، لكنها لا تتركهم وشأنهم. في ظلّ هذين النظامين العسكريين، انهارت الطبقة الوسطى، بعد سياسة الانفتاح الاقتصادي التي كان هدفها الأساسي بناء نخبة رأس المال الجديد، باستغلال ثروة البلد عن طريق الفساد. وصعدت الطبقة الجديدة في حالةٍ من السيولة والفوضى التي يصعب معها التصنيف إلى أي فئة ينتمي هؤلاء الأثرياء الجدد.
ليست صورة الفقراء وحدهم، وإنّما هي صورة حقيقية تعكس حالة التمايز الطبقي واللامساواة واللاعدالة في المجتمع. وبدلاً من البحث عن أسباب الفقر وحده، لا بد من البحث كذلك عن أسباب استشراء الغنى لفئة معيّنة، لارتباطها بتفاقم ظاهرة الفقر، وذلك باستئثار بعضهم من غير وجه حق بأكثر الموارد المتاحة، وظهور مجتمع مقسّم على طبقاتٍ تعيش على حساب الآخرين، وعلى حساب حقهم في تلك الموارد التي يتم تحويلها لرفاهيتهم الخاصة دون غيرهم.
ففي وقتٍ تزيّن فيه الحكومة التقشّف بنجاح الطالبتين، يشهد الاقتصاد اتجاهاتٍ مؤلمةً نتيجة
لسياسات التقشف التي فرضتها الحكومة على المواطنين. ومع أنّ سياسة التقشف هذه اتبعت في دول عديدة على أثر الأزمة الاقتصادية العالمية، إلّا أنّ أهميتها لبقية الدول أنّها تُعتبر ضرورة اقتصادية تُطبّق على قطاعات الدولة من دون استثناء. كما يتم تطبيقها بحذر، تفادياً لردود فعل المواطنين، ويؤكَد على أنّها ضرورة لأجل مسمى، وليس فرضاً للتشفي. بالإضافة إلى أنّ أهمية هذه السياسة تبرز عالمياً، لأنّه يتم اتباعها بالشكل الذي ينبئ بإعادة الموازين التجارية العالمية إلى نصابها. فيتم تصحيح الديون التي تتسبب في مضاعفة الأسعار في البلد المعيّن، ويتقلص فائض الصرف الحكومي البذخي، وهو ما لا تنوي الحكومة فعله، بتقليص عدد الوزارات بدمج بعضها وإلغاء أخرى، وتقليص الوزراء إلى عدد محدود، ومراجعة شاملة في المؤسسات والهيئات العامة، وما يترتب على ذلك من تخفيض لكل مصروفاتهم، والأعباء التي يرهقون بها كاهل الخزينة العامة. ولأنّ قطاعي التعليم والصحة هما القطاعان المهمان اللذان يُختبر فيهما الإنفاق الحكومي، فمع تدني هذا الإنفاق، طفقت الحكومة في مداراة سوءاتها بالاحتفاء بتفوّق الطالبتين، على الرغم من الظروف.
خسر شعبا وادي النيل بانتزاع نظاميهما الحاليين السلطة من حكم ديمقراطي لصالح مؤسستين عسكريتين، احتكرتا المال، كما السلاح، وما زالتا تزيدان هذا الخسران المبين باستكثار النجاح في الزمان الصعب على مواطنيهما. في هذين النموذجين البسيطين، عندما أُفقر الشعب، جاءتا ترقّعان ما انفتق بالتكسّب من كدحه وتفوّقه، فميكانيكية التعويض تتيح للحاكم وأذرعه العيش على حساب ما يحقّقه الشعب، تسويات وحلولا مؤقتة، بدلاً من مواجهة إحباط الواقع.
تُشابه حياة مريم، الطالبة المصرية المتفوقة في امتحانات الثانوية العامة، حياة أسر مصريةٍ كثيرة، تغالب وتصارع من أجل البقاء بهذه الإشراقات، في ظل سياسات اقتصادية، فرضها نظام عبد الفتاح السيسي، ويشدُّ أنشوطتها حول رقابهم يوماً بعد يوم.
وتشابه حياة آيات، الطالبة السودانية التي تفوقت في امتحانات الشهادة الثانوية أيضاً، وفي التوقيت نفسه، من داخل سجن مدينة الأبُيّض غرب السودان، حياة كثيرين ممن يقضون عقوباتٍ نتيجة العسر المالي لإعالة أسرهم بسبب عدم السداد. زادت في قصة آيات جرعة القهر واللامعقولية، عندما أقامت حكومة الولاية الاحتفال بإطلاق سراحها مع 20 نزيلاً آخرين، دعا الوالي بقية النزلاء إلى أن يحذوا حذوها، لأنّ الإفراج عنهم سيكون بشرط التفوق الأكاديمي. وهنا يتضح أنّ خلل سياسات الدولة يتجاوز مداها، بتقصيرها عن احتياجات المواطنين في سجن البلد الكبير، كتقصيرها الذي أوصل هؤلاء إلى مخابئ السجون، وأغلبهم في أعمارهم الغضّة.
احتفى إعلام النظامين في البلدين بهذا التفوّق، وعلى الرغم من الاستحقاق، فإن استغلال
هذان نموذجان فقط من مجموعة نماذج لحالات أخرى. ربما يكون السبب في هذا الحصر أنّ النموذجين هما العنصران الأوضح في حملة الاستقطاب الحكومي، عندما يكون النظام غارقا في اعتصار الشعب واستغلاله. وعندما يبلغ إعلامه من المكر الحدّ الذي يزيّن فيه التقشف وتفوّق السجن، فلا تحسّ الحكومة بأيّ شعور وطني أو قومي، ولا تتردّد في قمع أي مظهرٍ، يمكن أن يخرج الشعب من الشعور بالغبن مع هذا التصور.
يزيد هذا الإحساس المختلط من تجسّد معاناة شعبٍ يظهر أفراده بوجوههم المتعبة المرتسمة فيها هموم مثل خريطة الوطن المثخن بالآلام. أجسادهم منهكة من تأثير السعي إلى رزقهم، حائرون وتائهون بين تحقيق أحلامهم ومصادرة كل أوجه الفرح بإثارة الشغب المفتعل في وجود من يتوقع منهم حماية الفرح.
عندما تتفاقم سلطة الدولة، ينشأ أبناؤها على الاتكال، وعندما تتعاظم بالشكل الذي تهتم فيه بترسيخ قواعدها وثرائها أكثر من اهتمامها بالشعب، يعوّل الناس على أنفسهم ويتركونها، لكنها لا تتركهم وشأنهم. في ظلّ هذين النظامين العسكريين، انهارت الطبقة الوسطى، بعد سياسة الانفتاح الاقتصادي التي كان هدفها الأساسي بناء نخبة رأس المال الجديد، باستغلال ثروة البلد عن طريق الفساد. وصعدت الطبقة الجديدة في حالةٍ من السيولة والفوضى التي يصعب معها التصنيف إلى أي فئة ينتمي هؤلاء الأثرياء الجدد.
ليست صورة الفقراء وحدهم، وإنّما هي صورة حقيقية تعكس حالة التمايز الطبقي واللامساواة واللاعدالة في المجتمع. وبدلاً من البحث عن أسباب الفقر وحده، لا بد من البحث كذلك عن أسباب استشراء الغنى لفئة معيّنة، لارتباطها بتفاقم ظاهرة الفقر، وذلك باستئثار بعضهم من غير وجه حق بأكثر الموارد المتاحة، وظهور مجتمع مقسّم على طبقاتٍ تعيش على حساب الآخرين، وعلى حساب حقهم في تلك الموارد التي يتم تحويلها لرفاهيتهم الخاصة دون غيرهم.
ففي وقتٍ تزيّن فيه الحكومة التقشّف بنجاح الطالبتين، يشهد الاقتصاد اتجاهاتٍ مؤلمةً نتيجة
خسر شعبا وادي النيل بانتزاع نظاميهما الحاليين السلطة من حكم ديمقراطي لصالح مؤسستين عسكريتين، احتكرتا المال، كما السلاح، وما زالتا تزيدان هذا الخسران المبين باستكثار النجاح في الزمان الصعب على مواطنيهما. في هذين النموذجين البسيطين، عندما أُفقر الشعب، جاءتا ترقّعان ما انفتق بالتكسّب من كدحه وتفوّقه، فميكانيكية التعويض تتيح للحاكم وأذرعه العيش على حساب ما يحقّقه الشعب، تسويات وحلولا مؤقتة، بدلاً من مواجهة إحباط الواقع.