أبناء العلقمي .. ماذا صنعتم بأنفسكم؟
التقيته في عمّان، بعد بضع سنين من آخر لقاء لنا في المدينة نفسها، كان متوتراً وعاصفاً، على خلفية توقيعه على ما سمي فيما بعد "وثيقة العار"، ووجهها، في حينه، مثقفون وكتاب عراقيون إلى جورج بوش وتوني بلير، بعنوان "خطاب شكر وامتنان باسم الشعب العراقي لمن هبوا من أجل حريته"، يخاطبونهما فيها: "إننا ندرك حجم المأثرة الإنسانية التي قدمتموها لشعبنا ووطننا... إنكما وحدكما من انسجم مع النبض الحقيقي لحضارة العالم، وروح الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، وأقدم على مساعدة شعبنا بشكل فعلي، ليتمتع بثمار حضارة العالم التي حرم منها طويلاً، وفي مقدمتها الديمقراطية والحرية وحقوق الأقليات ومؤسسات المجتمع المدني... وقد كان قراركما الوقوف إلى جانب شعبنا لحظة تاريخية ظاهرة، وتدخلاً إنسانياً يليق بالمثل العليا التي تجسدانها"، وتسترسل الرسالة لتحيي "أرواح الجنود الأميركيين، والبريطانيين، والإيطاليين، والكوريين، والبوليفيين، والإسبانيين، والأوكرانيين، والبولونيين، واليابانيين، والاستراليين، والحلفاء الآخرين (اقرأ: الإسرائيليين)، التي ستبقى بيننا تشهد على أمثولة التعاضد بين البشر"!
في حينها، كان صديقي مروجا الرسالة، متحمساً لها، داعياً إلى الاعتراف بجميل الأميركيين علينا، بتحريرنا من الديكتاتورية، ومساعدتنا على إقامة الديمقراطية!
قلت له إن موقفه، والموقعين معه على "وثيقة العار" هذه، ليس أقل من موقف ابن العلقمي الذي باع بغداد قبل سبعة عشر قرناً، (روايات تاريخية تنفي ذلك عنه)، وهو، أيضاً، كان مثقفا "أديبا يكتب بفصاحة، ويحتفظ في خزانة كتبه بعشرة آلاف مجلد، وصنفت له كتب عديدة". ندم ابن العلقمي هذا على فعلته، واستيقظ ضميره، حين رأته امرأة، وهو يركب حماراً بعد دخول التتار بغداد، فقالت له: "أيه يا بن العلقمي.. ماذا صنعت بنفسك؟" وقد مات إثر ذلك مهموما.
لم يكن في وسعي سوى أن أدعو صديقي إلى صحوة ضمير، لكن دعوتي فجرت غضبه وحنقه علي، وقطعت حبل الود بيني وبينه، ولكن إلى حين! في لقائنا، هذه المرة، وجدت خلافنا قد انكمش، وقد عاد صديقي إلى براءته الأولى، يتحدث بلغة الوطن الذي سرقه الأميركيون، وتابعوهم المحليون، من حدقات عيوننا، وقبل أن أذكّره بموقفه الأول الذي كان شاخصاً في ذاكرتي، كأنه يحدث للتو، بادرني بالقول إنه نادم على ما فعله، وضميره ظل يؤنبه، إلى أن كتب خطابا إلى شعبه، يطلب منه الغفران عما اقترفه بحقه، لكن الصحيفة التي يعمل فيها رفضت نشره، وناله توبيخ من رئيس التحرير، بحجة أن المقال ليس مناسبا اليوم، وأن الرسالة المذكورة طواها الزمن، وانتهت حكايتها!
على العكس، يعتقد صديقي أن "رسالة الخيانة"، كما أسماها، ستظل وصمة عالقة بجبينه، ولن يستطيع التخلص منها إلا بطلب الغفران، بعد أن صحا ضميره، وأدرك حجم فعلته، وهو جاء عمان، ليقطع صلته بما مضى، وليبحث عن مكان يقول فيه كلمته بحرية، وحكى لي ما عاناه طوال السنوات العشر التي أعقبت "تحرير العراق"، كما كان يحلو له، في السابق، أن يصف عملية غزو العراق واحتلاله، والاضطهاد الذي واجهه بسبب محاولاته تشخيص ما تحمله تجربة ما بعد "التحرير" من خطايا وجرائم، تهون أمامها، بحسب قوله، كل خطايا النظام السابق وجرائمه التي تبدو قطرة في بحر، بالنسبة لما حدث بعد ذلك.
واحدة من حكاياته التي رواها لي تهديده بالقتل من إحدى المليشيات، لمجرد نشره مقالة انتقد فيها صرف أكثر من مليار دولار من ميزانية الدولة المفلسة على مواكب التطبير في عاشوراء، وذكر فيه أن مبلغاً كهذا لو صرف على النازحين والمهجرين، وعددهم أكثر من ثلاثة ملايين، لكان أجدى وأنفع، ولأرضى ذلك الحسين نفسه الذي يزعم المسؤولون أنهم يقتفون سيرته، وتساءل في المقالة: "لماذا لا يتم الصرف على هذه المواكب من خزائن المراقد الدينية التي تصل إلى مليارات الدولارات سنوياً، والتي لا تعرف الدولة حتى مصادرها، وطرق جبايتها وصرفها؟"
آخر تهديد وصل إليه، قبل هجرته، مظروف مغلق حوى طلقة مسدس واحدة، من دون كلمات، ما دفعه لترك البلاد، والبحث عن مكان له في بلاد الله.
تركت صديقي غارقاً في شؤونه وشجونه، وعدت إلى وثيقة العار، أستعيدها، حرفاً بعد حرف، ولم أستطع أن أكبح صيحة في داخلي: يا أبناء العلقمي .. ماذا صنعتم بأنفسكم؟ قولوا لضمائركم أن تصحو، واطلبوا من شعبكم الغفران، كما فعل صديقي، لكي لا تموتوا مهمومين.