أبو ذر الذي لا زال يعيش وحده (1-2)
"رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويُبعث وحده"، "أبو ذر في أمتي على زهد عيسى بن مريم"، "من سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى ابن مريم فلينظر إلى أبي ذر"، "ما أقلّت الغبراء ولا أظلّت الخضراء من رجلٍ أصدق لهجةً من أبي ذر".
حتى لو لم تكن هذه المرويات وشبيهاتها قاطعة الصحة في نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي لطالما نُسبت إليه أحاديث تحكي عن فضائل هذا الصحابي أو ذاك، إلا أنها بالتأكيد كانت دقيقة في تعبيرها عن شخصية الصحابي أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، وعن طريقته في التعبير عن رأيه التي جعلته أشهر معارض في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومع أنه كان بتعبير أيامنا "معارضاً من داخل المؤسسة"، يرغب في إصلاحها، وليس في نقضها أو هدمها، إلا أنه دفع ثمن معارضته لغياب العدالة الاجتماعية غالياً، فظل يعيش وحده سواءاً وهو في داخل المجتمع الإسلامي، أو حين تم نفيه خارجه ليموت وحده، ولتبقى أفكاره من بعده أيضاً تعيش وحدها، ويتعرض كل من يؤمن بها أو يدعو إليها، للاضطهاد أو التنكيل أو في أحسن الأحوال لنبذ معنوي، يجعله أيضاُ يعيش وحده ويموت وحده.
لم يكن أبا ذر المعارض العلني الوحيد في عهد عثمان، فقد كان الصحابيان عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود أيضاً من أبرز الأصوات المعارضة، لكن أبا ذر كان ـ وظل ـ الأكثر شهرة وإثارة للجدل حتى بعد أن مرت قرون على وفاته، فاعتبره بعض الكتّاب رائداً لما أسموه "اشتراكية الإسلام" أو ما أسماه آخرون "اليسار الإسلامي"، في حين اعتبر كتّاب آخرون أن أبا ذر كان حسن النية ولذلك وقع ضحية لمخطط يهودي قاده المدعو عبد الله بن سبأ لشق صفوف المسلمين، وأنه قام بجمع أصوات المعترضين على سياسة عثمان حوله ليساهم ذلك في إضعاف دولة الخلافة الراشدة، مع أن أبا ذر كما تقول أغلب المصادر التاريخية المعتدّ بها لم يكن يهدف إلى جمع أحد حوله، وكل ما كان يهدف إليه هو التعبير عن رفضه لما يراه حوله من غلبة للترف على الناس، وتمكن للثراء منهم، واضعاً نصب عينيه تحذير القرآن الكريم مما يفعله الترف بالمجتمعات، خصوصاً حين يقترن بظلم يجعل الأغنياء يزدادون غنىً والفقراء يزدادون فقراً، وهو ما جاء في قوله تعالى: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً".
لكن مجتمع المدينة في عهد عثمان بن عفان، لم يكن مستعداً لقبول صوت أبي ذرالمختلف، حتى لو قرر أبو ذر ألا يهاجم أحداً بعينه، مكتفياً بالمرور في شوارع المدينة وهو يردد قوله تعالى: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشِّرهم بعذاب أليم"، ليشعر أغنياء المدينة الجدد بفعل أموال الفتوحات بالتهديد من صوت أبي ذر، فيقوموا بشكواه للخليفة عثمان الذي طلب منه أن يتوقف عما يفعله، فشكاه أبو ذر لكثير من الصحابة قائلاً: "أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله"، مقرراً تصعيد الموقف بعقد المجالس للحديث مع الناس، ليبلغهم رأيه فيما يجري في المدينة قائلاً إنهم لو وضعوا السيف في حلقه ليمنعوه من إبلاغ ما سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم لما نجحوا في ذلك.
وبرغم أن "الرد الرسمي" على اعتراضات أبي ذر تركز في الإشارة إلى عدم تقصير أولي الأمر في جمع زكاة المال من الأغنياء وإنفاقها في مصارفها الشرعية، إلا أن أبا ذر كان يعتقد أن الزكاة غير كافية في ظل تضخم الأموال التي قام الكثيرون بجمعها وكنزها، لأن نسبة الزكاة الصغيرة لا تنفع الفقراء الذين يستحقون أن يعطيهم الأغنياء والمترفون جميع ما يكنزونه، خاصة أنهم لم يكنزوه بسبب مهارة خاصة، بل بسبب الفتوحات الإسلامية التي أغرقت الكثيرين في أموال لم يكونوا يحلمون بها، وهو رأي عرضه للصدام مع عثمان بن عفان، في مجلس علني حضره كثير من الوجوه البارزة في مجتمع المدينة، الذين تابعوا النقاش صامتين، لكن أحدهم وهو كعب الأحبار تطوّع للرد على أبي ذر، وكما يقول المؤرخ المسعودي في كتابه (مروج الذهب ومعادن الجوهر)، فقد أغلظ أبو ذر لكعب الأحبار في القول، وذكّره بأنه يهودي الأصل قائلاً: "يا ابن اليهودي ما أجرأك على القول في ديننا"، وبغض النظر عما كتبه بعض المؤرخين عن شخصية كعب الأحبار الخلافية، والتي ينسب البعض إليها إطلاق حركة وضع الأحاديث التي سميت بـ "الإسرائيليات"، وهو ما يرى كُتّاب آخرون أن به مغالاة قامت بتعظيم دور الرجل وشيطنته أحياناً، إلا أن واقع الحال أن رد أبي ذر العنيف على كعب الأحبار، تم اعتباره تجاوزاً في حق الخليفة، لذلك غضب عثمان وأصدر قراراً بنفي أبي ذر عن المدينة، ليُترك له اختيار منفاه.
اختار أبو ذر أن يذهب إلى الشام، لأنه كما يقول الدكتور محمد عمارة في كتابه الممتع (مسلمون وثوار)، اعتقد أنها جبهة مناسبة لمواجهة ما كان يسمعه عن انحراف واليها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، "والذي حوّل الشام إلى صورة غريبة للفخامة القيصرية"، وبالفعل بدأت على الفور مواجهات أبي ذر مع مترفي الشام من أصدقاء معاوية والمقربين منه، وحين زادت شكاواهم لمعاوية الذي طلب من أبي ذر أن يتوقف عن حملاته التحريضية، رد عليه أبو ذر بصريح العبارة قائلاً: "والله لا أنتهي حتى توزع الأموال على الناس كافة"، وحين حاول معاوية اتباع أسلوب آخر مع أبي ذر، حين أرسل إليه ألف دينار في جنح الظلام، فوجئ أن أبا ذر قام بتوزيعها على الفقراء في نفس الليلة، وربما لم يكن معاوية يعرف أن هذا ما دأب عليه أبو ذر من قبل، حين كان يوزع جميع ماله على الفقراء، أيام أن كان يحصل على عطاء سنوي كبير في أيام أبي بكر وعمر، بوصفه من السابقين الأولين في الإسلام.
حين فشلت سياسة الترهيب وفشلت بعدها سياسة الترغيب، أرسل معاوية شاكياً لعثمان يحذره من تفجير أبي ذر للفتنة في الشام، ولأن كلمة (الفتنة) كانت ولا زالت وستظل ذات مفعول سحري على ولاة الأمور، فقد تجاوب عثمان على وجه السرعة مع شكوى واليه، وطلب منه أن يرسل إليه أبا ذر على وجه السرعة، فأرسله معاوية على بغلة عجفاء حطّاً من شأنه كما تقول بعض الروايات، لكنه في الوقت نفسه حاول تشويه سمعته بوضع متاع كثير على الدواب المصاحبة له ليقول الناس لبعضهم: "انظروا إلى هذا الزاهد وما يملكه من متاع كثير"، مع أن تلك الدواب لم يكن عليها ما يسمن أو يغني.
حين علم عثمان بإهانة معاوية لأبي ذر ذهب إليه يسترضيه، لكن أبا ذر لم يكن مشغولاً بمشاعره الشخصية، بقدر ما كان مهموماً بما رآه من غلبة الترف على كثير من أهل المدينة، حتى أن بيوت الأغنياء الفخمة بمعايير ذلك الزمان انتشرت وتوغلت فبلغت منطقة (جبل سلع)، وهو ما يقول البعض إنه ذكّر أبا ذر بنبوءة كان قد قالها الرسول عليه الصلاة والسلام في أحد أحاديثه التنبؤية أو التحذيرية، التي قال فيها إنه لن يكون راضياً عن المسلمين إذا حدث ذلك، ومع أن رواية كهذه يرجح أن تكون قد تم وضعها من بعض الذين لم يعجبهم الوضع القائم، فقرروا نسبة سخطهم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، لأن الله قال على لسانه في القرآن الكريم "ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء"، إلا أن الثابت أن أبا ذر لم يعجبه ما رآه، فأخذ يطوف في شوارع المدينة وأسواقها محذراً من عواقب ما يراه وقائلاً للناس بأعلى صوته: " بشّر أهل المدينة بغارة شعواء وحرب مذكار".
لم يمر الكثير من الوقت حتى اصطدم أبو ذر بكعب الأحبار من جديد في حضور عثمان، بسبب تعليق أبي ذر على الثروة التي جمعها عبد الرحمن بن عوف الزهري، ليتطور الخلاف بينهما إلى قيام أبي ذر بضرب كعب الأحبار على رأسه، ليسترضي عثمان خاطر كعب الأحبار، بأن يطلب من أبي ذر أن يواري عنه وجهه، ودارت مداولات حول المكان الذي يجب أن يتوجه إليه أبا ذر بعيداً عن المدينة، خاصة بعد أن منعه عثمان من الذهاب إلى مكة، لكي لا يحدث فيها أزمات أكثر خطورة، ولم يؤثر فيه قول أبي ذر له: "أتمنعني من بيت ربي أعبده فيه حتى أموت؟"، ولأن عثمان كان لا زال يتذكر ما حذره منه واليه في الشام، فقد منع أبا ذر من الذهاب إلى البصرة، وحسب رواية المسعودي في (مروج الذهب) فقد اختار عثمان ضاحية الربذة القريبة من المدينة والمنعزلة عنها، لكي تكون منفى أبا ذر الجديد، في حين يرى ابن الأثير في (الكامل في التاريخ) أن أبا ذر هو الذي حدد لنفسه هذا المكان، وهو رأي يتفق معه الدكتور محمد سليم العوا الذي يرى أن رأي المسعودي لا يتفق مع خلق عثمان ولا مع مكانة أبي ذر، كما أنه غير ثابت تاريخياً، مستشهداً في ذلك برأي ابن خلدون الذي يؤيد رأي ابن الأثير، أما الدكتور محمد عمارة فيؤيد رأي المسعودي مذكراً بأن عثمان أجبر أبا ذر من قبل على مغادرة المدينة، كما أن شخصية نضالية مثل أبي ذر ـ على حد تعبير محمد عمارة ـ لا يمكن أن تختار الانعزال في الصحراء، مشيراً إلى ما رواه ابن الأثير في موضع آخر من أن أبا ذر كان يخشى على نفسه من العيش في ضاحية منعزلة كالربذة، لكي لا يعود فيها إعرابياً كطبيعته السابقة.
نكمل غداً بإذن الله