لو أن مارتن بيرنال لا يزال على قيد الحياة لكان أولى اهتماماً خاصاً بما يجري في اليونان هذه الأيام، من ردود فعل على ما يراه أحفاد الإغريق تركيعاً لبلدهم العريق وإلحاقاً مهيناً له بـ "البانثيون" الأوروبي، ولكن من الأبواب المخصَّصة للخدم. قد تكون هذه الكلمات قاسية، وقد لا يكون هذا هدف القوى الأوروبية الممسكة بأعنَّة الاقتصاد والسياسة الاتحادية. وربما تكون الحكومات اليونانية السابقة قد استسهلت "مد اليد"، غير أن الواقع، في كل حال، ليس بعيداً عن ذلك.
ولكن ما شأن الأكاديمي البريطاني، المثير للجدل، مارتن بيرنال، الذي أحدث ضجيجاً لا مثيل له في الأوساط الاكاديمية قبل نحو عقدين، بأزمة الديون اليونانية؟ لا شيء على الإطلاق. ولكن شأنه بـ "ديون" على اليونان من نوع آخر جردها في سفره الضخم، "أثينا السوداء"، الذي وضعه في مرمى سهام الأكاديميا الغربية على نحو لم يتعرض له أكاديمي غربي من قبل. ففي كتابه المذكور، ذي الأجزاء الثلاثة، يتحدث بيرنال عن "ديون" تتعلق بالتاريخ الحضاري اليوناني الذي أعيدت، بحسب رأيه، كتابته، بل "تنقيته" من المؤثرات المصرية والسورية، لكي يبدو هندوأوروبياً، أبيضَ، آريّاً، وخالياً من مسحة سمراء أو سوداء، رغم أن اليونان أقرب الى الساحل السوري والمصري منها الى ألمانيا وبريطانيا وفرنسا.. وسائر الشمال الأوروبي.
المركز الأوروبي الذي يدين الى أثينا بالفلسفة والعلوم والفنون والسياسة، أي بمعظم ما يشكل محتواه الحضاري وما يُعرِّف به ذاته ، تدين له أثينا بـ 240 مليار يورو لن تستطيع سدادها، في ظل شروط "الترويكا" الدائنة، على مدار جيلين، أو ثلاثة، لو اشتغل كل اليونانيين عندهم بالفاعل.
اقرأ أيضاً: "لا اليونان": الصحافة الألمانية تُلملم خيبتها... بغضب
جرَّدت وصفة "الترويكا" (المفوضية الأوروبية، صندوق النقد الدولي، البنك المركزي الأوروبي) لتسديد ديون أثينا، اليونانيين من مكتسبات نضالهم الاجتماعي والطبقي ما بعد حكم الجنرالات، وجعلتهم خدماً لفائدة الديون.. ولكن ها هم اليونانيون يقولون لمركز المال والسلطة الأوروبي: لا، بملء الفم.
علميات تصفية
تعتزُّ أوروبا باسمها. يتبدَّى هذا الاسم، ما إن ينطق، في وجه أبيض وشعر أشقر. يمكن له أن يُذكِّر بصورة الألماني كما أرادها هتلر وحزبه أن تكون. بيد أن اسم أوروبا ليس أوروبياً، مثلما هي الأبجدية التي كتبت بها كنوز المعرفة البشرية العظيمة في أثينا وروما (والدول – الأمم التي تبلورت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر). أوروبا، كما نعرف، هي أميرة فينيقية اختطفها زيوس، كبير آلهة الإغريق، من الشاطئ اللبناني وفرَّ بها الى بلاده. تقول الأسطورة إن زيوس فتن بجمال الأميرة اللبنانية أوروبا، ابنة ملك صور، فتبدَّى لها على شكل ثور. أغراها بامتطائه فما إن اعتلت ظهره حتى طار بها الى الطرف الآخر من المتوسط. أرسل الملك الصوري أبناءه للبحث عن شقيقتهم في بلاد اليونان. قاد هذه الحملة قدموس الذي تنقَّل، وإخوته، من بلدة يونانية الى أخرى سائلاً عن أخته، ومُعَلِّماً أهل هذه البلدات، في الوقت ذاته، الأبجدية الفينيقية. في نهاية المطاف استقر الأمر بقدموس في اليونان وأسَّس مدينة طيبة. هذا ما تقوله الأسطورة. وهو ما يقوله على نحو مختلف قليلاً مؤرخ الإغريق الكبير، هيرودس، الذي يرجع للفينيقيين الفضل في امتلاك الإغريق الأبجدية. هكذا سميت القارة، أو البلاد التي لم تكن معروفة من قبل، باسم الأميرة السورية أوروبا مثلما سميت أفريقيا، فترة من الوقت، باسم أمها ليبيا.
الأساطير ليست خرافات. هي قصص وسرديات تعكس شكلا ما، صورة ما، نوعاً ما من التاريخ. ولكن في التاريخ الواقعي، غير الأسطوري، أن اليونان تأثرت بمؤثرين كبيرين في نحو القرن التاسع قبل الميلاد: الحضارة المصرية والحضارة الفينيقية السورية، حيث يرى بيرنال أن نحو 25 بالمائة من اللغة اليونانية فينيقي (سوري) و20 – 25 بالمائة من أصل مصري، والباقي من أصول هندو أوروبية.
إذا كان اليونانيون قد أخذوا الأبجدية من الفينيقيين، فهم أخذو الآلهة وفن النحت والعمارة والعجلة الحربية (الهكسوسية) من المصريين، عبر جزيرة كريت التي لعبت دور الوسيط في نقل المؤثرات المصرية والفينيقية إلى البر اليوناني، أو ما صار يعرف كذلك. ويجادل مارتن بيرنال، صاحب "أثينا السوداء"، أن تأثيرات كهذه لم تكن نتيجة احتكاك عابر بين اليونانيين وجيرانهم المصريين والفينيقيين بل ثمرة سيطرة طويلة لهذين العنصرين على أجزاء من اليونان القديمة.
عصر الإمبريالية
هذه الديون الحضارية والمعرفية كانت معروفة لليونايين القدماء، رغم مشاعرهم المتضاربة حيال المصريين والفينيقيين، خصوصاً عندما تبلورت الصورة الحضارية لليونان. يقول بيرنال إن الشعور القومي اليوناني القوي لم يحل دون أن تتسرب إلينا بعض الاعترافات بالأدوار الأفرو آسيوية (حسب تعبيره) في الحضارة اليونانية. فأبو المسرح اليوناني، أسخيلوس، له مسرحية بعنوان "المستجيرات" يتحدث فيها عن وصول داناؤس المصري (شقيق ايجبتوس) وبناته الخمسين (تقول الأسطورة إنه لم ينجب سوى بنات) إلى أرغوس اليونانية، لكنَّ الشعور القومي لجمهور أسخيلوس جعله يصف هؤلاء القادمين بـ "المستجيرين"، رغم أن بيرنال يجد نوعاً من التورية بين اسم المسرحية "هايكسوس" ولفظة "هكسوس" الذين كانوا قد احتلوا مصر وجلبوا إليها أدوات وأساليب من بينها السيف والعجلة الحربية. نجد اعترافات أخرى بالعناصر المصرية والفينيقية في الحضارة اليونانية عند أفلاطون، الذي خاطب مواطنيه قائلاً: "أيها اليونانيون : لستم سوى أطفال". أفلاطون نفسه درس في مصر وأقام فيها فترة من الوقت.
بلغ الاحتقار الاستعماري الأوروبي لمصر مداه مع عالم المصريات البريطاني، والس بدج، الذي قال: "إن المصريين، وهم في الأصل شعب أفريقي، يتصفون بكل ما تتصف به شعوب الشمال الأفريقي من فضائل ورذائل، ولا سبيل للظن، ولا لبرهة واحدة، بأن أي شعب أفريقي يمكن أن يصبح ميتافيزيقياً بالمعنى الحديث للكلمة، فما من لغة أفريقية يمكنها أن تتواءم مع التعبير عن التأملات الفلسفية". ثم يشن هجوماً على زميل له قارن بين كلمات إلهي في اليونانية واللاتينية واللغة المصرية فقال بما معناه إنه لمن الصعب التصور مقارنة مفهوم الله في فكرة شعب نصف متحضر (مصر) بما هو عليه عند أمم متحضرة كاليونان والرومان!
قبل عامين توفي مارتن بيرنال، الذي صدم العالم الأكاديمي الغربي بمادته المناقضة لما استقر في الأكاديميا الغربية حول المعجزة الحضارية اليونانية التي لا تبدو، في هذا الفكر السائد، وليدة تلاقح مع حضارات أخرى. كأنَّ أثينا، التي ليست سوى اقتباس للآلهة المصرية أنيت، أو السورية عنات، هبطت من السماء دفعة واحدة، أو وصلت، في ركب غامض، من الشمال الذي يتكلم لغات هندو أوروبية.
يمكن لمن قرأ كتاب بيرنال، "أثيناء السوداء"، الذي ترجم الى العربية وصدر جزؤه الأول عام 2002 عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر، أن يتأمل في مصائر اليونان الأوروبية اليوم، وهي تساق إلى الإعدام الاقتصادي على يد "الترويكا"، وريثة العقل والتحضّر اليونانيين!
ولكن ما شأن الأكاديمي البريطاني، المثير للجدل، مارتن بيرنال، الذي أحدث ضجيجاً لا مثيل له في الأوساط الاكاديمية قبل نحو عقدين، بأزمة الديون اليونانية؟ لا شيء على الإطلاق. ولكن شأنه بـ "ديون" على اليونان من نوع آخر جردها في سفره الضخم، "أثينا السوداء"، الذي وضعه في مرمى سهام الأكاديميا الغربية على نحو لم يتعرض له أكاديمي غربي من قبل. ففي كتابه المذكور، ذي الأجزاء الثلاثة، يتحدث بيرنال عن "ديون" تتعلق بالتاريخ الحضاري اليوناني الذي أعيدت، بحسب رأيه، كتابته، بل "تنقيته" من المؤثرات المصرية والسورية، لكي يبدو هندوأوروبياً، أبيضَ، آريّاً، وخالياً من مسحة سمراء أو سوداء، رغم أن اليونان أقرب الى الساحل السوري والمصري منها الى ألمانيا وبريطانيا وفرنسا.. وسائر الشمال الأوروبي.
المركز الأوروبي الذي يدين الى أثينا بالفلسفة والعلوم والفنون والسياسة، أي بمعظم ما يشكل محتواه الحضاري وما يُعرِّف به ذاته ، تدين له أثينا بـ 240 مليار يورو لن تستطيع سدادها، في ظل شروط "الترويكا" الدائنة، على مدار جيلين، أو ثلاثة، لو اشتغل كل اليونانيين عندهم بالفاعل.
اقرأ أيضاً: "لا اليونان": الصحافة الألمانية تُلملم خيبتها... بغضب
جرَّدت وصفة "الترويكا" (المفوضية الأوروبية، صندوق النقد الدولي، البنك المركزي الأوروبي) لتسديد ديون أثينا، اليونانيين من مكتسبات نضالهم الاجتماعي والطبقي ما بعد حكم الجنرالات، وجعلتهم خدماً لفائدة الديون.. ولكن ها هم اليونانيون يقولون لمركز المال والسلطة الأوروبي: لا، بملء الفم.
علميات تصفية
تعتزُّ أوروبا باسمها. يتبدَّى هذا الاسم، ما إن ينطق، في وجه أبيض وشعر أشقر. يمكن له أن يُذكِّر بصورة الألماني كما أرادها هتلر وحزبه أن تكون. بيد أن اسم أوروبا ليس أوروبياً، مثلما هي الأبجدية التي كتبت بها كنوز المعرفة البشرية العظيمة في أثينا وروما (والدول – الأمم التي تبلورت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر). أوروبا، كما نعرف، هي أميرة فينيقية اختطفها زيوس، كبير آلهة الإغريق، من الشاطئ اللبناني وفرَّ بها الى بلاده. تقول الأسطورة إن زيوس فتن بجمال الأميرة اللبنانية أوروبا، ابنة ملك صور، فتبدَّى لها على شكل ثور. أغراها بامتطائه فما إن اعتلت ظهره حتى طار بها الى الطرف الآخر من المتوسط. أرسل الملك الصوري أبناءه للبحث عن شقيقتهم في بلاد اليونان. قاد هذه الحملة قدموس الذي تنقَّل، وإخوته، من بلدة يونانية الى أخرى سائلاً عن أخته، ومُعَلِّماً أهل هذه البلدات، في الوقت ذاته، الأبجدية الفينيقية. في نهاية المطاف استقر الأمر بقدموس في اليونان وأسَّس مدينة طيبة. هذا ما تقوله الأسطورة. وهو ما يقوله على نحو مختلف قليلاً مؤرخ الإغريق الكبير، هيرودس، الذي يرجع للفينيقيين الفضل في امتلاك الإغريق الأبجدية. هكذا سميت القارة، أو البلاد التي لم تكن معروفة من قبل، باسم الأميرة السورية أوروبا مثلما سميت أفريقيا، فترة من الوقت، باسم أمها ليبيا.
الأساطير ليست خرافات. هي قصص وسرديات تعكس شكلا ما، صورة ما، نوعاً ما من التاريخ. ولكن في التاريخ الواقعي، غير الأسطوري، أن اليونان تأثرت بمؤثرين كبيرين في نحو القرن التاسع قبل الميلاد: الحضارة المصرية والحضارة الفينيقية السورية، حيث يرى بيرنال أن نحو 25 بالمائة من اللغة اليونانية فينيقي (سوري) و20 – 25 بالمائة من أصل مصري، والباقي من أصول هندو أوروبية.
إذا كان اليونانيون قد أخذوا الأبجدية من الفينيقيين، فهم أخذو الآلهة وفن النحت والعمارة والعجلة الحربية (الهكسوسية) من المصريين، عبر جزيرة كريت التي لعبت دور الوسيط في نقل المؤثرات المصرية والفينيقية إلى البر اليوناني، أو ما صار يعرف كذلك. ويجادل مارتن بيرنال، صاحب "أثينا السوداء"، أن تأثيرات كهذه لم تكن نتيجة احتكاك عابر بين اليونانيين وجيرانهم المصريين والفينيقيين بل ثمرة سيطرة طويلة لهذين العنصرين على أجزاء من اليونان القديمة.
عصر الإمبريالية
هذه الديون الحضارية والمعرفية كانت معروفة لليونايين القدماء، رغم مشاعرهم المتضاربة حيال المصريين والفينيقيين، خصوصاً عندما تبلورت الصورة الحضارية لليونان. يقول بيرنال إن الشعور القومي اليوناني القوي لم يحل دون أن تتسرب إلينا بعض الاعترافات بالأدوار الأفرو آسيوية (حسب تعبيره) في الحضارة اليونانية. فأبو المسرح اليوناني، أسخيلوس، له مسرحية بعنوان "المستجيرات" يتحدث فيها عن وصول داناؤس المصري (شقيق ايجبتوس) وبناته الخمسين (تقول الأسطورة إنه لم ينجب سوى بنات) إلى أرغوس اليونانية، لكنَّ الشعور القومي لجمهور أسخيلوس جعله يصف هؤلاء القادمين بـ "المستجيرين"، رغم أن بيرنال يجد نوعاً من التورية بين اسم المسرحية "هايكسوس" ولفظة "هكسوس" الذين كانوا قد احتلوا مصر وجلبوا إليها أدوات وأساليب من بينها السيف والعجلة الحربية. نجد اعترافات أخرى بالعناصر المصرية والفينيقية في الحضارة اليونانية عند أفلاطون، الذي خاطب مواطنيه قائلاً: "أيها اليونانيون : لستم سوى أطفال". أفلاطون نفسه درس في مصر وأقام فيها فترة من الوقت.
بلغ الاحتقار الاستعماري الأوروبي لمصر مداه مع عالم المصريات البريطاني، والس بدج، الذي قال: "إن المصريين، وهم في الأصل شعب أفريقي، يتصفون بكل ما تتصف به شعوب الشمال الأفريقي من فضائل ورذائل، ولا سبيل للظن، ولا لبرهة واحدة، بأن أي شعب أفريقي يمكن أن يصبح ميتافيزيقياً بالمعنى الحديث للكلمة، فما من لغة أفريقية يمكنها أن تتواءم مع التعبير عن التأملات الفلسفية". ثم يشن هجوماً على زميل له قارن بين كلمات إلهي في اليونانية واللاتينية واللغة المصرية فقال بما معناه إنه لمن الصعب التصور مقارنة مفهوم الله في فكرة شعب نصف متحضر (مصر) بما هو عليه عند أمم متحضرة كاليونان والرومان!
قبل عامين توفي مارتن بيرنال، الذي صدم العالم الأكاديمي الغربي بمادته المناقضة لما استقر في الأكاديميا الغربية حول المعجزة الحضارية اليونانية التي لا تبدو، في هذا الفكر السائد، وليدة تلاقح مع حضارات أخرى. كأنَّ أثينا، التي ليست سوى اقتباس للآلهة المصرية أنيت، أو السورية عنات، هبطت من السماء دفعة واحدة، أو وصلت، في ركب غامض، من الشمال الذي يتكلم لغات هندو أوروبية.
يمكن لمن قرأ كتاب بيرنال، "أثيناء السوداء"، الذي ترجم الى العربية وصدر جزؤه الأول عام 2002 عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر، أن يتأمل في مصائر اليونان الأوروبية اليوم، وهي تساق إلى الإعدام الاقتصادي على يد "الترويكا"، وريثة العقل والتحضّر اليونانيين!