"أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها
أجمل الأمهات التي انتظرته
وعاد
عاد مستشهداً
فبكت دمعتَين ووردة
ولم تنزوِ في ثياب الحداد..."
هي أجمل الأمهات. صدق الشاعر. هي أجمل الأمهات، تلك التي فقدت ضناها. الفقد هو الفاجعة الكبرى. السبب ما هو إلا مجرّد تفصيل. استشهاد.. مرض.. قضاء وقدر... وتطول القائمة. هي أجمل الأمهات وإن اتّشحت بالسواد ولازمت زاويتها. هي أجمل الأمهات وإن غرقت في الدموع ونبذت الورود.
أحكام الطبيعة واضحة صريحة. الأبناء هم الذين يوَدّعون آباءهم، هم الذين يوْدعونهم الثرى. هم الذين يبكون رحيلهم. أحكام الطبيعة واضحة صريحة. الأمّ تحتضن ابنها في أحشائها تسعة شهور، لتهبه الحياة في النهاية. حياة، لا تحسب أن تشهد هي نهايتها.
تهب الأمّ ابنها الحياة، وتقضي سني حياتها وهي تردّد "يا تقبرني!" و"تْطُمني يا ماما!". هذا منطق. هذه هي سنّة الحياة.. الابن هو الذي يلحد أمّه.
تردّد "يا تقبرني!" و"تْطُمني يا ماما!"، كأنّما في ذلك تعويذة، تقي ضناها من شرّ انقلاب الأدوار. هي تفزع من انقلاب الأدوار. كيف لا تفعل؟ لا نكبة أكبر من أن تلحد هي ابنها.. فلذة كبدها.
ويتحدّثون عن أمّ مفجوعة. لا فجعك الله بعزيز! هي أمّ بُتِر بعض منها. هي أمّ فقدت نقاط ارتكازها. ابنها لم يعد حيث كان، بيد أنّه أصبح في كلّ مكان تحلّ هي فيه.
هو شعور بالاجتثاث، ذلك الذي يجتاحها. وتسأل: "لماذا نحن؟ لماذا هو؟". فاجعتها معاكسة بيّنة للطبيعة. هو نوع من إجحاف هائل، ذلك الذي استهدفها. إجحاف نال منها، فيما برأت منه أخريات. "هذا ليس بعدل!" وتحنق. كثيراً ما لا تظهر حنقها، فالوهن يعوّقها.
وتندبه. تندبه بحرقتها ولوعتها وألمها. تندبه، فيما ينهش الحنق أحشاءها التي احتضنت فقيدها الأغلى تسعة شهور. كانت لها القدرة على وهبه الحياة، كيف لم تفلح في إبقائه على قيدها؟ ويلازمها شعور خانق بالذنب.
وتصرّ على ندبه أكثر. هي تجزع من فكرة أن يغيب عنها، إذا لم تفعل. ويتلبّس بها جزع من نسيانه في يوم وفي لحظة.. جزع من المضيّ قدماً في الحياة.. حياة لم يعد فيها.
"أجمل الأمهات التي عينها لا تنام
تظلّ تراقب نجماً
يحوم على جثّة في الظلام..."
هي أجمل الأمهات.. صدق الشاعر محمد عبد الله.