أطرَبَني أحمد زغلول الشيطي (مواليد 1961) حين قال إن "صخرة هليوبوليس" ثاني رواياته، والتي صدرت مؤخّراً عن "دار العين" في القاهرة، على عكس روايته الأولى والأشهر "ورود سامّة لِصَقر" (1990)، هي النص الذي كان يتمنّى كتابته منذ البداية.
ففي معرِض الاحتفاء الواسع بـ"ورود سامّة" من جانب وسط أدبي ما زالت تُخالِجُه وقتذاك روح الواقعية الاشتراكية وظلال الحركة الطلابية واليسار الناصري، قيل إنها حلْقة الوَصْل بين الستينيات والتسعينيات في الرِواية المصرية، بينما الواقع أن النص القصير الذي يبدأ بالموت المفاجئ لشاب واعد أصابه الاكتئاب وفقدان الأمل، ثم يحكي حكايته من أربع وجهات نظر مختلفة - وإنْ حقّق درجات لافتة من الاختزال اللغوي وتَعدُّدَ الأصوات - إنما يُعبّر عن حساسية سبعينيّة خالِصة: الفزع الذي مثّله موت عبد الناصر وتَحَوُّل سياسة الدولة والعالم، في حين أنَّ "صخرة هليوبوليس" وإن جاءتْ بعد ثلاثين سنةً وفي ظرف يَسلُبها ما حازتْه سابِقتها من احتفاء، هي إحدى أُولى الروايات التسعينية الناجحة.
فخلاف سرديات شعراء أمثال علاء خالد (1960) وياسر عبد اللطيف (1966)، وتجارب أسماء معدودة - منها مصطفى ذكري (1966) وهيثم الورداني (1972) - عَزَّ نصٌّ سردي يعكس الحساسية التسعينية المتمثلة أساساً في قصيدة النثر أن يشتبك على نحو نقدي ليس مع تطوّر الكتابة وحده - كما يفعل إبراهيم فرغلي (1967) على سبيل المثال - ولكن كذلك مع التحوّل التاريخي الذي حَلّ بالمجتمع بين "التزام" السبعينيات وانهيار الاتحاد السوفييتي. وقد سبقتْ أعمال ما يمكن أن يُسمّى جيل "الربيع العربي" من كُتّاب الرواية إصدارات عديدة لأمثال إبراهيم عبد المجيد (1946) ومحمود الورداني (1950)، فضلاً عن الستينيين السابق ذكرهم منذ 1990، لكن ليس بينها ما هو تسعيني بالمعاني المقصودة.
"صخرة هليوبوليس" رواية تسعينية ليس فقط في تشذيرها للوعي الجماعي لصالح الفرد بعيداً عن التاريخ المُصرّح به، وليس فقط في تنحِيَتها للافتراضات القِيَميّة وأنماط الحياة المكرّسة لصالح عدسات متعدّدة الزوايا وأجساد منفلتة في فضاء متغيّر، ولا حتى في نبرتها التي تُوازِن ما بين المَحكي والشِعري وتُبدّي اليومي والمألوف على البلاغي والجمالي. إنها رواية تسعينية في طموحها الصادق إلى تجاوز ما سبقها وشجاعة طريقتها في تحقيق ذلك.
"أعرف الآن بعد مرور نصف قرن، أنّ هذا ربما لم يحدث، أو أنه حدث على نحو مغاير… "، هكذا يقول أحد رُواة "صخرة هليوبوليس"، وهم مثل أبطالها متعدّدون وإن كانت تربطهم وشائجُ حياتيةٌ ومكانيّة تجعل من أصواتهم الفُرَادَى وخِبراتِهم المُتباينة نَسيجاً جمالياً واحداً، لا تكاد تُميّز خيوطه فلا تَعرِف دائماً أيَّ شخصية تخاطبك ولا أي سيرة تُحكى، لكنك لا تتعطّل عن القراءة ولا تختلّ عملية الجَرف الموسوعي من أرض خَبِرَها الكاتب بما يكفي ليحوّلها إلى جدارية تتجاور فيها الحكايات دون أن تتشابك تماماً. وهو إنجاز فريد في إيجازه وانضباطه البنيوي. "هل كان يعلم أن رحيله سيترك ثقْباً يتوق إلى الامتلاء… تيقنتُ مراراً أن الثقب لم يقتصر على أمي وحدها، لقد طال الجميع… ".
لعل المتكلّم هنا هو المدعو يوسف، ساكن مصر الجديدة - الحيّ الذي يشير إليه العنوان باسمه الإفرنجي - وهو المشغول بمكان شقته الألفينية في القاهرة من قبر أمه بدمياط، والباحث من ثَمّ في التاريخ المعماري لكليهما…الأقرب إلى شخص الشيطي نفسه. يتكلّم الراوي عن أبيه البائع المتجوّل، لكن كلامه ينطبق - من طرْف المجاز والإحالة - مساحة إنسانية أوسع ليس فقط من هذا الخط - الأساسي - الذي يقتفيه النص، ولكن مما يغطيه الكتاب كلّه على اتساعه: من "هدية" و"الأسطى عزيز" الأويمجيّة، و"سنّو" اللص الفذّ الذي اكتسب اسمه من قدرته على تصويب المطواة، ومخيّم الغجر ومقام سيدي القناديلي الذي انتصرت كراماته على مشروع بناء السجن الذي كان لَيقتضي إزالته… وإلى ذكريات مَن يصطحب خاله المسحراتي صغيراً إلى بيت أحد الأعيان ليقرأ الخال عنده سورة الرحمن.
لا شك في صلابة "ورود سامّة" (التي استوحاها المخرج فوزي صالح العام الماضي في أحد أنجح إنتاجات السينما المستقلّة، "ورد مسموم"). فقد استحقّت أن تكون - ومن قَبْلِ أن تُنشر كاملةً في أحد أعداد مَجَلّة "أدب ونقد" الصادرة عن "حزب التجمّع" سنة 1990 - محطّ أنظار بعض أبرز الأسماء في النقد الأدبي مثل سيد البحراوي وفريدة النقاش، حيث نُشرتْ مدعومةً بقراءاتهم.
لكنْ كان من شأن مجال استقبالها أن يُمتدَح ما فيها من إبداع على مستويَي اللغة والبناء ولا يُلاحَظ أن تقنيات التكثيف والتَعدّد - مهما كانت، في سياقها، باهرة - إنما تَعرِض لتَوَجُّه ربما فاق في وعيه "الاشتراكي" وولائه للمشروع الناصري توجهات أعمال روائية يُعرَّف بها جيلُ الستينيات لأمثال إبراهيم أصلان (1935 - 2012) وجمال الغيطاني (1945 - 2015). ولعل الأصح من كون الشيطي رَبَط الستينيات بالتسعينيات أنه دمج مدرستين ستينيتين يمثل إحداهما أصلان والثانية، الأقرب إلى الواقعية الاشتراكية وإن تطوّرت إلى ما يمكن أن يُسمّى الواقعية المُفرِطة، يمثّلها صنع الله إبراهيم (1937).
هذا الجانب من إنجاز الشيطي يحمله العمل الجديد (الذي بدأتْ كتابتُه كما يُشير التاريخ الملحَق بالنص سنة 2007)، وإنْ فَعَل في طيّات بناء أعمق وأبرح بالغ الابتكار، من شدة فرادته أنه إذا كان يُذكّر بواقعية صنع الله إبراهيم أحياناً وخفّة دم أصلان أحياناً أخرى وشِعريّة محمد البساطي (1937 - 2012) أحياناً ثالثة، فهو يستدعي أيضاً قدرات كتابية لا علاقة تاريخية لها به مثل نفاذ محمد شكري (1935 - 2003) في نقل الوجع وحميمية العلاقة بالشخصيات لدى سعد مكاوي (1916 - 1985). لكنّ الأهم أن صفحة الشيطي قد تخلّصتْ من رواسب القناعة السياسية وإن حفِظتْ له تعاطفه الإنساني. وهو بذلك في ظني عثر على صوته الأدبي الأنقى والأطرب.
إثر طلوع بطله، صقر عبد الواحد، ميّتاً على العالم، كفّ الكاتب الشاب - خرّيج الحقوق سنة 1983 - عن كتابة الروايات، فأصدر في 1991 عن مختارات مجلة "فصول" التابعة لوزارة الثقافة مجموعة قصص "شتاء داخلي" وفي 1994 عن "دار شرقيات" مجموعة ثانية "عرائس من ورق"، ثم انخرط في العمل القانوني وتجاوز المأزق الاقتصادي الذي وجد نفسه في حبائله ما إن شبّ عن الطوق… إلى أن عاد سنة 2009 بمجموعة ثالثة "ضوء شفاف ينتشر بخفة"، وفي أعقاب ثورة يناير 2011 كتاب مذكرات ومشاهدات هو "مائة خطوة من الثورة" (كلاهما عن دار ميريت).
ولعل أكثر قصص المجموعتين الأوليين كانت كُتبت قبل 1990 هي الأخرى، فكأن الشيطي اعتزل الكتابة كما اعتزل بطله الحياة. يهدي كتابه الجديد "إلى كل هؤلاء الذين عبروا ممالك وديكتاتوريات، وحروباً عبثية، واختبروا لصوصاً خبراء، وقاوموا بعناد الرغبة الملحة في التحول إلى أشباح".
بين القصر الذي بناه البارون البلجيكي إمبان في صحراء "مدينة الشمس" على تخوم القاهرة وبين نقطة التقاء النيل بالبحر الأبيض حيث مقبرة أم يوسف في دمياط مسافة أكثرُ من جغرافيّة، فالكتاب يستوحي قرار البارون حفر نفق في الصحراء يصل بين مسكنه الباذخ والمقبرة المُعدَّة لدفنه في كنيسة البازيليك القريبة، ولعل النص الذي يقدمه بدوره نفق يصل ليس فقط بين حياة الشيطي في مصر الجديدة ونشأته في دمياط، ولكن أيضاً بين ثقافتين ومجتمعين بل ووضعين إنسانيين كان عام روايته الأولى هو الفاصل بينهما.