تُثير المشاركة العربية في الدورة الـ 38 (15 ـ 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2016) لـ "مهرجان القاهرة السينمائي الدولي"، في "المسابقة الرسمية" و"آفاق السينما العربية" تحديداً، سؤالاً أساسياً، يتعلّق بثنائية الشكل والمضمون السينمائيين.
ذلك أن فوز "ميموزا"، للفرنسي أوليفر لاكس، بجائزتي "الهرم الذهبي لأفضل فيلم" وأفضل ممثل لشكيب بن عمرو، في "المسابقة الرسمية"، ليس فوزاً عابراً، لاحتوائه على كمٍّ من الجماليات البصرية اللافتة للانتباه، تصويراً ومونتاجاً والتقاطاً بديعاً لمناظر مختلفة، تتوزّع على الطبيعة، والذات الفردية، وحيوية التأمّل في الموت والحياة والغدر والبحث عن خلاصٍ إنسانيّ من ورطة الجحيم الأرضيّ. في حين أن حصول "حرائق"، للسوري محمد عبد العزيز، على جائزة لجنة التحكيم الخاصّة، في "آفاق السينما العربية" (تبلغ قيمتها المالية 50 ألف جنيه مصري، ممنوحة من "كلينك ـ محمد حفظي" و"فيرست استب")، يطرح سؤال المعنى الفعلي للفوز، إذْ يعاني الفيلم مشاكل درامية وفنية وجمالية عديدة، في مقابل جماليات سينمائية مختلفة، يتمتّع بها "المدينة" (الأردن، 2015)، لعمر الشرقاوي، مثلاً، المُشارك في "آفاق السينما العربية" أيضاً.
والمشاكل تلك تكاد تُشبه مشاكل "وقائع قريتي" للجزائري الهولندي كريم طريدية (المسابقة الرسمية)، العائد بشخصياته إلى زمن الاستعمار الفرنسي للجزائر، عشية اندحاره، والذاهب بصُوَره إلى محاولة ابتكار نصٍّ بصري، يصطدم بخللٍ واضحٍ في البنية الدرامية الأصلية للحكاية، وفي معالجتها، وسردها، وتفاصيلها المختلفة. في حين أن "المدينة" يُشكّل لحظة تأمّلٍ عميقة في أمره السينمائي، كما في مضمونه الإنساني، المفتوح على عناوين الهوية والانتماء والعلاقة بالجذور، كما على مفاصل البؤس والانكسار والفوضى والفساد والعنف، المبطّن (وهو أعمق وأجمل) والظاهر (المتفشّي في أركان العيش اليومي)، ما يجعله انعكاساً واقعياً وحسّياً لشيءٍ من وحشية الاجتماع، وإنْ تكن المدينة أردنية، فهي، من دون شكّ، أعمّ وأوسع، جغرافياً وإنسانياً.
اقــرأ أيضاً
الصورة التأمّلية في "ميموزا" تنحو باتجاه المحاولة السينمائية الصادقة، والآسرة إلى حدّ بعيد، لتفكيك البناء الإنساني، وفقاً لواقع النزاعات الذاتية بين واجبٍ وفعلٍ أخلاقيّ ومسعى إلى تطهّر ما. والصورة الواقعية في "المدينة"، المتضمّنة نموذجاً آخر من التأمّل العميق والتفكيكي أيضاً، تغوص في متاهات العجز عن مواجهة "أشباح" الذات الفردية، خارج الخراب المفروض عليها، وخارج الجحيم الذي تجد نفسها فيه فجأة. وإذْ يُحافظ "ميموزا" على نسقٍ "فلسفيّ"، غامضٍ أحياناً عديدة، في سرد قصّته؛ فإنّ "المدينة" لن يتمرّد على الواقعية الفجّة، في الكشف والفضح، كما في التنقيب السينمائيّ في شؤون حياتية مختلفة.
والفيلمان يرتكزان على مفهوم سينمائي للرحلة، المتنوّعة الأشكال والمسارات والتفاصيل، في الروح والجغرافيا معاً. فالأول (ميموزا) يقوم برحلةٍ، جغرافية أولاً وروحية ثانياً، لإيصال جثمان شيخٍ يوصي بدفنه في قريته. والثاني (المدينة) يقوم، هو أيضاً، برحلة، روحية أولاً وجغرافية ثانياً، لخروج العائد إلى بلده من جحيم الأرض، ومتاهاتها القاسية، إذْ يجد نفسه في السجن، بتهمة قتل صبيّ (خطأً) قبل الهروب منه إلى سجنٍ آخر، يتمثّل بوقوعه بين يديّ طبيب "يسرق" أعضاء صبيانٍ ومراهقين، لبيعها عبر وسيط يهوديّ.
أما "حرائق"، الباحث في مصائر عددٍ كبيرٍ من الشخصيات المتناقضة والمتصادمة والمختلفة، فيبقى أسير نقصٍ حادٍ في إكمال بدايات يصنعها ويعجز عن تبيان ملامحها وطرقها ومساراتها. بدايات في كل شيء، ومع كل أحد. ذلك أن المعلَّق سمة، تنفلش على المساحات كلّها، إذْ تبدو شخصياتٍ من دون أخرى، كأنها تائهة في النصّ لا في الحياة، وتظهر شخصيات أخرى كأنها مُصابة بلعنة الغموض، في النص لا في الحياة، أيضاً.
في المقابل، يتّسم "وقائع قريتي" بسطحية واضحة المعالم، في المفاصل كلّها التي يُفترض بها أن تصنع فيلماً. فلا الشخصيات مبنية، درامياً، بالشكل المطلوب، ولا الأحداث مشغولة بـ "منطق" درامي وجمالي وفني سليم، ولا السرد مُشبَع بمفردات القول السينمائي. السطحية فاقعة، واستعادة حقبة أساسية من تاريخ الصراع، الدائر حينها بهدف التحرّر والاستقلال الجزائريين من الاستعمار الفرنسي، مبنية على أسس سينمائية متينة الصُنعة والبنيان.
اختزال التعليقات النقدية يهدف إلى كشف شيءٍ أساسيّ من أحوال الأفلام الأربعة. صحيحٌ أن لكل واحدٍ منها حقّاً نقدياً في مقاربةٍ، تبحث في شؤونه وأحواله وبُناه السينمائية المختلفة. لكن قراءة كهذه تهدف إلى إجابةٍ ما على سؤال الواقع السينمائي العربي الراهن، تمهيداً لمزيدٍ من نقاشاتٍ نقدية، تريد مواكبة الآنيّ، ورفده بحوارٍ مفتوح على السينما والاجتماع والسلوك الفردي في مواجهة التحدّيات المختلفة، وهي أمورٌ تلتقطها الأفلام الأربعة تلك، وإنْ بمستويات جمالية متناقضة بينها.
اقــرأ أيضاً
ذلك أن فوز "ميموزا"، للفرنسي أوليفر لاكس، بجائزتي "الهرم الذهبي لأفضل فيلم" وأفضل ممثل لشكيب بن عمرو، في "المسابقة الرسمية"، ليس فوزاً عابراً، لاحتوائه على كمٍّ من الجماليات البصرية اللافتة للانتباه، تصويراً ومونتاجاً والتقاطاً بديعاً لمناظر مختلفة، تتوزّع على الطبيعة، والذات الفردية، وحيوية التأمّل في الموت والحياة والغدر والبحث عن خلاصٍ إنسانيّ من ورطة الجحيم الأرضيّ. في حين أن حصول "حرائق"، للسوري محمد عبد العزيز، على جائزة لجنة التحكيم الخاصّة، في "آفاق السينما العربية" (تبلغ قيمتها المالية 50 ألف جنيه مصري، ممنوحة من "كلينك ـ محمد حفظي" و"فيرست استب")، يطرح سؤال المعنى الفعلي للفوز، إذْ يعاني الفيلم مشاكل درامية وفنية وجمالية عديدة، في مقابل جماليات سينمائية مختلفة، يتمتّع بها "المدينة" (الأردن، 2015)، لعمر الشرقاوي، مثلاً، المُشارك في "آفاق السينما العربية" أيضاً.
والمشاكل تلك تكاد تُشبه مشاكل "وقائع قريتي" للجزائري الهولندي كريم طريدية (المسابقة الرسمية)، العائد بشخصياته إلى زمن الاستعمار الفرنسي للجزائر، عشية اندحاره، والذاهب بصُوَره إلى محاولة ابتكار نصٍّ بصري، يصطدم بخللٍ واضحٍ في البنية الدرامية الأصلية للحكاية، وفي معالجتها، وسردها، وتفاصيلها المختلفة. في حين أن "المدينة" يُشكّل لحظة تأمّلٍ عميقة في أمره السينمائي، كما في مضمونه الإنساني، المفتوح على عناوين الهوية والانتماء والعلاقة بالجذور، كما على مفاصل البؤس والانكسار والفوضى والفساد والعنف، المبطّن (وهو أعمق وأجمل) والظاهر (المتفشّي في أركان العيش اليومي)، ما يجعله انعكاساً واقعياً وحسّياً لشيءٍ من وحشية الاجتماع، وإنْ تكن المدينة أردنية، فهي، من دون شكّ، أعمّ وأوسع، جغرافياً وإنسانياً.
الصورة التأمّلية في "ميموزا" تنحو باتجاه المحاولة السينمائية الصادقة، والآسرة إلى حدّ بعيد، لتفكيك البناء الإنساني، وفقاً لواقع النزاعات الذاتية بين واجبٍ وفعلٍ أخلاقيّ ومسعى إلى تطهّر ما. والصورة الواقعية في "المدينة"، المتضمّنة نموذجاً آخر من التأمّل العميق والتفكيكي أيضاً، تغوص في متاهات العجز عن مواجهة "أشباح" الذات الفردية، خارج الخراب المفروض عليها، وخارج الجحيم الذي تجد نفسها فيه فجأة. وإذْ يُحافظ "ميموزا" على نسقٍ "فلسفيّ"، غامضٍ أحياناً عديدة، في سرد قصّته؛ فإنّ "المدينة" لن يتمرّد على الواقعية الفجّة، في الكشف والفضح، كما في التنقيب السينمائيّ في شؤون حياتية مختلفة.
والفيلمان يرتكزان على مفهوم سينمائي للرحلة، المتنوّعة الأشكال والمسارات والتفاصيل، في الروح والجغرافيا معاً. فالأول (ميموزا) يقوم برحلةٍ، جغرافية أولاً وروحية ثانياً، لإيصال جثمان شيخٍ يوصي بدفنه في قريته. والثاني (المدينة) يقوم، هو أيضاً، برحلة، روحية أولاً وجغرافية ثانياً، لخروج العائد إلى بلده من جحيم الأرض، ومتاهاتها القاسية، إذْ يجد نفسه في السجن، بتهمة قتل صبيّ (خطأً) قبل الهروب منه إلى سجنٍ آخر، يتمثّل بوقوعه بين يديّ طبيب "يسرق" أعضاء صبيانٍ ومراهقين، لبيعها عبر وسيط يهوديّ.
أما "حرائق"، الباحث في مصائر عددٍ كبيرٍ من الشخصيات المتناقضة والمتصادمة والمختلفة، فيبقى أسير نقصٍ حادٍ في إكمال بدايات يصنعها ويعجز عن تبيان ملامحها وطرقها ومساراتها. بدايات في كل شيء، ومع كل أحد. ذلك أن المعلَّق سمة، تنفلش على المساحات كلّها، إذْ تبدو شخصياتٍ من دون أخرى، كأنها تائهة في النصّ لا في الحياة، وتظهر شخصيات أخرى كأنها مُصابة بلعنة الغموض، في النص لا في الحياة، أيضاً.
في المقابل، يتّسم "وقائع قريتي" بسطحية واضحة المعالم، في المفاصل كلّها التي يُفترض بها أن تصنع فيلماً. فلا الشخصيات مبنية، درامياً، بالشكل المطلوب، ولا الأحداث مشغولة بـ "منطق" درامي وجمالي وفني سليم، ولا السرد مُشبَع بمفردات القول السينمائي. السطحية فاقعة، واستعادة حقبة أساسية من تاريخ الصراع، الدائر حينها بهدف التحرّر والاستقلال الجزائريين من الاستعمار الفرنسي، مبنية على أسس سينمائية متينة الصُنعة والبنيان.
اختزال التعليقات النقدية يهدف إلى كشف شيءٍ أساسيّ من أحوال الأفلام الأربعة. صحيحٌ أن لكل واحدٍ منها حقّاً نقدياً في مقاربةٍ، تبحث في شؤونه وأحواله وبُناه السينمائية المختلفة. لكن قراءة كهذه تهدف إلى إجابةٍ ما على سؤال الواقع السينمائي العربي الراهن، تمهيداً لمزيدٍ من نقاشاتٍ نقدية، تريد مواكبة الآنيّ، ورفده بحوارٍ مفتوح على السينما والاجتماع والسلوك الفردي في مواجهة التحدّيات المختلفة، وهي أمورٌ تلتقطها الأفلام الأربعة تلك، وإنْ بمستويات جمالية متناقضة بينها.