وتعمقت المشكلات الهيكلية عبر سوء الإدارة وتبعية الاقتصاد ورهانات الخارج، والاعتماد على مصادر ريعية.
ومع اتساع الأزمة النقدية من خلال شحّ السيولة، وانخفاض سعر صرف الجنيه السوداني مقابل الدولار، والعجز عن توفير اعتمادات مالية للسوق، تفاقمت أزمات معيشية، منها أزمة القمح والخبز والوقود وسلع أخرى، ما زالت تجاهد الحكومة الانتقالية لتوفيرها.
وفي ظل هذا المشهد، وبعد إعلان "صفقة القرن"، التقى رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان قبل أيام برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أوغندا، ما أثار حفيظة أغلب السودانيين، لاعتبار اللقاء مدخلاً لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وتجاوزاً لمهامّ الحكومة الانتقالية حسب الوثيقة الدستورية.
وأمام حالة الرفض، نفى البرهان أن يكون اللقاء مرتبطاً بإعادة صياغة العلاقات الخارجية، واعتبر الجيش أن اللقاء بين البرهان ونتنياهو هدفه "المصلحة العليا للأمن القومي وللسودان".
أزمة نظام البشير ورهان التطبيع
أمام التحدي الاقتصادي يجري استخدام ورقة إعادة رسم العلاقات الخارجية، بما فيها التطبيع مع إسرائيل، كعامل مساعد لإيجاد حلول للأزمة، ويجري الترويج بأن التطبيع يحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، بما يساهم في رفع سلسلة العقوبات المفروضة على السودان في أعوام (1992،1997،2006)، خاصة بعد رفع الولايات المتحدة بعضها في 12 أكتوبر 2017 (الحظر التجاري، تجميد الممتلكات) كرد فعل على استجابات الخرطوم لمطالب الولايات المتحدة المتعلقة بوقف التعاون مع كوريا الشمالية وإيران، والتزامها إيصال المساعدات إلى مناطق الصراع المسلح، خاصة دارفور، وما أحرزته من تقدم في عملية السلام.
وارتبط قرار إنهاء العقوبات بسلسلة مفاوضات امتدت من عام 2009، وقادها رجال عمر البشير، منهم رئيسان سابقان لجهاز المخابرات، هما محمد العطا وصلاح قوش، وإبراهيم الغندور وزير الخارجية. وأمام اشتداد أزمة النظام، سعى داخلياً إلى تخفيف الأعباء الخارجية عليه، خاصة مع الولايات المتحدة، واتبع أسلوب المراوغة مع دول الخليج ومصر، وكانت مخرجات الحوار الوطني (2014-2016) تعبّر عن التباينات تجاه الموقف من الولايات المتحدة والتطبيع مع إسرائيل.
ويرصد التقرير الاستراتيجي الفلسطيني 2016/2017 تغيّر موقف نظام البشير من إسرائيل، عبر تصريحات قادة من حزب المؤتمر الوطني. لكن قرار رفع الحظر التجاري، بما يتضمنه من استيراد السلع وتصديرها ومشاركة المواطنين الأميركيين في الاستثمار بالسودان، وإلغاء تجميد الممتلكات الحكومية السودانية لدى الولايات المتحدة لم ينعش نظام البشير، أو يحمِه من السقوط، كذلك لم يعالج أزمة الاقتصاد بقدر ملموس، ما يُشكّك في رهانات البعض حول تفكك الأزمة الاقتصادية بإلغاء العقوبات والتطبيع مع إسرائيل كطريق ممهد لذلك.
هذا لا يُلغي آثار العقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان، التي تذهب تقديرات إلى أنها تتجاوز 4 مليارات دولار سنوياً، لكن أزمة البلاد ترتبط بإشكاليات الاقتصاد الهيكلية، من ضعف وسائل الإنتاج وأساليبه، وتخلفها، وتبعية الاقتصاد وانتشار النهب والفساد، وقد تعمقت الأزمة نتاج استنزاف الصراعات المسلحة موارد ضخمة بشرية ومالية، ما عرقل تدفق رؤوس الأموال في ظل عدم الاستقرار السياسي، بالإضافة إلى ارتفاع الإنفاق العسكري والأمني.
يمثّل التطبيع علامة على انجرار السودان إلى تحالف إقليمي يتبنى "صفقة القرن" كرؤية يروجها في المنطقة العربية، وترتبط بمشاريع اقتصادية تدمج إسرائيل في المنطقة، وتسمح لها باستغلال الموارد الطبيعة من الثروات المعدنية والأراضي الزراعية، ويعمّق وجودها بمشروعات الطاقة، وخاصة الغاز، وربما تأمين مصادر للمياه. وتأتي دعاوى التطبيع لتزيد من إمكانيات الربط والتعاون الاقتصادي بين الدول العربية وإسرائيل، خاصة بعد إعلان "صفقة القرن" بحضور سفراء البحرين والإمارات وعمان، التي شملت ملامح لتعاون اقتصادي يدمج إسرائيل بالمنطقة، وسبق أن أعلنت السعودية شراكتها مع إسرائيل ومصر والأردن في مشروع "نيوم".
تحقق إسرائيل عبر التطبيع مع السودان أكثر من هدف يدعم شراكتها الاقتصادية. فالسودان دولة ممرّ للقارة الأفريقية، وغنية بالموارد الطبيعة، وطورت خبراتها في مجال الزراعة، وتهدف إسرائيل إلى الاستثمار في السودان، بمجال الزراعة، بالإضافة إلى مجال التعدين والطاقة، وإلى تعميق مصالحها الاستراتيجية في أفريقيا.
عسكرياً، يسمح التعاون مع السودان في التأثير بملف الصراع الليبي، ويعطي وجود إسرائيل في السودان فرصة لمواجهة تركيا التي تدعم حكومة فائز السراج المعترف بها دولياً، ما يؤثر في تنافس المصالح والمشروعات المتعلقة بالطاقة في البحر المتوسط بين إسرائيل وتركيا من جانب آخر، ويساند التطبيع الحكومات التي تدعم قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وأبرزها دولة الإمارات، إضافة إلى أن وجود إسرائيل في السودان يمنحها تسهيلات لوجستية وأمنية وعسكرية واستخبارية في أفريقيا، بجانب العوائد الاقتصادية. وليس قرار الجيش السوداني الذي أعلنه المتحدث الرسمي، بالسماح بعبور طائرات إسرائيلية تجارية في المجال الجوي السوداني، بعد يومين من لقاء البرهان/ نتنياهو إلا نموذجاً واضحاً على استفادة تل أبيب من علاقاتها مع الخرطوم.
التطبيع ليس حلاً سحرياً
رفع كل العقوبات عن السودان، ورفع السودان عن قائمة الدول الراعية للإرهاب حق أصيل للشعب السوداني، خاصة بعد انتهاء مسبباته وأسسه، ويمكن أن يقود السودان حملة مناصرة دولية في هذا الشأن. كذلك فإن التطبيع ليس حلاً سحرياً لفك الأزمة الاقتصادية، فنتائجه محدودة، ومن التضليل اعتباره حلاً كما يروج البعض، وتُعَدّ تجربة مصر إطاراً للفهم والتحليل والمقارنة، مع الأخذ بالاعتبار الفروق بين وضعية مصر وإسرائيل في زمن المواجهات العسكرية، أو رغبة إسرائيل في عرقلة مصر بكل السبل. فقد كانت وعود السادات بحدوث انتعاشه اقتصادية بعد اتفاقية كامب ديفيد 1979 وإقرار عملية السلام تتكرر دائماً، إلا أن التطبيع لم يؤتِ ثماراً اقتصادية ذات أثر، ولم يحدث تطوراً حقيقياً، وما زالت العلاقات الاقتصادية وحجم التبادل الاقتصادي المصري الإسرائيلي، وأيضاً العربي الإسرائيلي محدودة العوائد.
يلمس أيضاً أن ثمة رغبة للجيش السوداني في رفع حظر الأسلحة الذي فرضته الولايات المتحدة في 8 أكتوبر 1992، وهذا يؤثر في تسليحه وقدرته القتالية. كذلك إن إلغاء قرار حظر المساعدات الأميركية الذي اتُّخذ يوم 12 أغسطس 1993 عبر ضمّ السودان إلى قائمة الدول الراعية للإرهاب يعني أن الولايات المتحدة يمكنها التدخل في ما يتعلق بقروض صندوق النقد والبنك الدوليين، وهو ما يُعَدّ حلاً سريعاً لتوفير السيولة النقدية، ولكنه أيضاً ليس حلاً وحيداً.
إن اعتبار التطبيع حلاً لأزمة السودان يتنافى مع قيم الثورة، بل وقيم المنطق، فتعميق التبعية الاقتصادية، والارتهان لسياسة الأحلاف، والرهان على الخارج، استمرار لسياسة نظام الإنقاذ الذي حكم السودان 30 عاماً، وليس نقيضاً له كما يتصور البعض، وهذه السياسة لا تحمل حلولاً حقيقية لأزمة السودان.