تُعَدّ مشاركة أطباء السودان لافتة في الاحتجاجات الأخيرة التي دخلت، يوم الأربعاء الماضي، أسبوعها التاسع. وهؤلاء دفعوا ثمناً غالياً، إذ إنّ واحداً منهم قضى في أثناء تلك التحرّكات المناوئة للنظام الحاكم في البلاد.
منذ انطلاق الحراك الشعبي في السودان، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، يحرص الطبيب فاروق البدوي على المشاركة في المسيرات الشعبية والاعتصامات والإضرابات. هو مقتنع بـ"ضرورة تغيير النظام القائم في البلاد، لا سيّما أنّه أوصلها إلى هوّة سحيقة"، بحسب ما يقول لـ"العربي الجديد".
والبدوي واحد من مئات الأطباء المشاركين في التحركات الاحتجاجية المطالبة بتنحّي الرئيس السوداني عمر البشير وتأليف حكومة انتقالية. ومشاركة هؤلاء لا تقتصر على الهتاف، مثلما قد يقول البعض، بل ثمّة كثيرون منهم يرون أنّهم يقودون تلك التحرّكات بأنفسهم ويوجّهونها. كذلك فإنّهم، منذ بدء الاحتجاجات، دخلوا في إضراب عن التعامل مع الحالات الباردة، ونفّذوا عشرات الوقفات في مستشفيات سودانية عدّة، وشكّلوا في المسيرات فرقاً طبية لإسعاف الجرحى المحتملين، بينما كانت لهم مساهمات مالية عندما تقتضي الحاجة إلى ذلك. يُذكر أنّ لجنة الأطباء تتولّى مهمّة الإعلان عن القتلى والجرحى الذين يسقطون في كلّ موكب احتجاجي.
وسط تلك الاحتجاجات، قضى الطبيب بابكر عبد الحميد، في منطقة بري شرق العاصمة الخرطوم، وقد تباينت الروايات حول مقتله. ففي حين تحدّثت رواية حكومية عن موته بسلاح غير متوفّر لدى القوات الحكومية، أفادت رواية معارضة بأنّه قتل على أيدي القوات الحكومية في أثناء إسعافه جرحى في أحد التحرّكات التي كان يشارك فيها كمحتجّ.
بالنسبة إلى الطبيب البدوي، فإنّ "مشاركتي وزملائي في الثورة السودانية أمر طبيعي وواجب قومي ووطني وإنساني. فالطبيب إنسان ويتعامل مباشرة مع إنسان، وما يقوم به ليس مهنة إنّما رسالة تماماً كما التعليم". يضيف أنّ "الطبيب السوداني معروف عنه تمسّكه بالقيم الإنسانية والأسرية والاجتماعية عموماً، وهذا ما يدفعه إلى التصدّي لكلّ ما يهدّد الإنسان في السودان. من هنا تأتي المشاركة في هذه التحركات الاحتجاجية واضحة وقيادية ورائدة". ويتابع البدوي أنّ "الأطباء السودانيين هم الأكثر إدراكاً لمعاناة السودانيين، خصوصاً المرضى الذين لا يتوفّر لهم الدواء ولا المؤسسات الطبية المؤهلة لمتابعة أحوالهم ولا القدرة على تحمّل بدلات المعاينة الطبية. تُضاف إلى ذلك معاناة الأطباء أنفسهم، لجهة ضعف رواتبهم وعدم توفّر فرص تدريب وتأهيل ومواكبة للتطوّرات والاكتشافات الطبية".
من جهته، يتحدّث الصحافي فيصل محمد صالح عن أسباب أخرى لمشاركة الأطباء في الاحتجاجات الشعبية الأخيرة، أبرزها "تاريخهم الطويل في ربط العمل النقابي بالعمل السياسي"، مستشهداً بـ"ثورات شعبية سابقة في عام 1964 وعام 1985. فالأطباء كان لهم دورهم البارز حينها، وذلك التاريخ صار يورّث للأجيال الجديدة منهم". ويوضح صالح لـ"العربي الجديد" أنّ "الأطباء هم أكثر القطاعات تنظيماً، وقد سبقوا القطاعات الأخرى الخاصة بالمهندسين والبياطرة والمعلمين، على سبيل المثال"، مشيراً إلى أنّهم "خاضوا من خلال التنظيم الجيّد، عبر لجنة الأطباء المركزية، معارك مطلبية قبل نحو خمسة أعوام، لا سيّما من أجل تحسين الأوضاع الطبية في المستشفيات". يضيف صالح "سبباً آخر يتعلّق بامتلاك الأطباء شبكة تواصل فعّالة على المدى البعيد. هم وبمجرّد إعلانهم عن وقفات احتجاجية، سُجّلت على سبيل المثال استجابة سريعة من أطباء في مدينة الدويم (أقصى الجنوب) وبورتسودان (شرق) والفاشر الجنينة (غرب)".
في السياق، يعزو القيادي في تجمّع المهنيين السودانيين، محمد يوسف أحمد المصطفى، موقف الأطباء السودانيين من التحركات الشعبية إلى "عددهم الكبير جداً بالمقارنة مع النقابات الأخرى"، شارحاً لـ"العربي الجديد" أنّه "لا يدانيهم عدداً إلا المعلّمون. كذلك فإنّه من السهل تعبئة الأطباء، خصوصاً أنّ كوادر النقابات الأخرى تتوزّع في مناطق بعيدة، لا سيّما المعلّمين وأساتذة الجامعات". ويتّفق المصطفى مع صالح حول "قدرة الأطباء التنظيمية التي أهّلتهم لخوض معارك مطلبية سابقة وأخرى خاصة بتحسين البيئة وتوفير المعينات الطبية في المستشفيات".
تجدر الإشارة إلى أنّ دخول الأطباء في إضرابات عن العمل أثار جدالاً واسعاً وقسم الشارع السوداني. ثمّة من يرى في ذلك أمراً خطأ بحجّة أنّ المتضرر الأوّل والأخير هو المريض، بينما يؤيّد آخر موقفهم مؤكداً أنّ الحكومة هي المعنيّة بالإضراب. ويؤكد البدوي أنّ "إضراب الأطباء أتى بعدما بلغ السيل الزبى، وأنّ الغرض هو تحسين البيئة الطبية وتوفير العلاج للمحتاجين إليه، بالإضافة إلى تحسين معاشهم في ظلّ أوضاع معيشية متدنية"، مشيراً إلى أنّ "الإضرابات تشمل فقط الحالات الباردة وليس أقسام الطوارئ والعمليات الجراحية وغيرها من الإجراءات الطبية الملحة". لكنّ صالح يرى أنّ "إضراب الأطباء قضية جدلية بلا شك، وأنا أتفهّم الموقف الرافض لها، نظراً إلى حساسية مهنتهم. فالأطباء كيان يتأثّر بالوضع العام في البلاد، إلى جانب ظروفهم الخاصة وشعورهم أكثر من غيرهم بالأزمات في الحقل الطبي وما يواجهه المرضى. بالنسبة إليهم، الإضراب هو أداة الضغط التي يملكونها في وجه الحكومة".