22 أكتوبر 2024
أطباق التخمة السادية الإلكترونية
صور أجسادٍ عاريةٍ هزيلة، جوّعها حصار نظام الأسد وحلفائه في مدينة مضايا السورية، افتتحت أهوال العام الجديد، والتي بات العالم العربي ما بعد الثورات المصدر الرئيسي لها. الأشد رعباً من هذه الصور التي احتلت الشاشات العالمية صور أطباق الطعام التي اختارها أنصار حملة إلكترونية "تضامناً مع حصار مضايا"، تشفيّاً بالأمعاء الفارغة للجياع عبر الاحتفال بالتخمة، والتي تستحق، بجدارة، جائزة التفوق في استعراضات السادية. أثارت الحملة قرف الإعلام في العالم، يساراً ويميناً، عبرت عنه عناوين بالخط العريض لكلمات مثل "عشاء" أو"طعام" في وصف الدهشة من مستوى سادية المتشفين من الجياع، في حين لم تلق أي اهتمام في وسائل الإعلام الداعمة لنظام الأسد، حيث لا يوجد أساساً جوع، ولا جياع، في مضايا، أو غيرها من المناطق التي يحاصرها الجيش السوري.
سادية القتل والقمع في العالم العربي ما بعد الثورات ليست جديدة، وليست إلى انحسار مع العام الجديد، بل باتت شعبية هذه الانتهاكات لدى مجموعات واسعة تتخذ من وسائط الإعلام الحديث منبراً مفضلاً للتعبير عن أشكال العنصرية والسادية بطرق مبتكرة، من دون خجل. ليس هؤلاء من العامة الجهلة، كما تفسر عادة هذه التعبيرات. القسم الأكبر من هؤلاء هم من أصحاب الشهادات الجامعية، بل يوقع بعضهم مقالاتٍ في صفحات الجرائد، ويتحدث إلى الإعلام باعتباره محللاً لشؤون المنطقة. بعض هؤلاء قادة للرأي العام، رجال ونساء سياسة، أساتدة جامعيون، صحافيون...
على بشاعة تعبيرات الإعلام الحديث، يشكل استكشاف هذه السادية الإلكترونية واستعراضها فرصة أكثر منه خطراً. هل كان يمكن أن يُخيل إلينا أننا نعيش، إلى جانب أفرادٍ فقدوا إنسانيتهم إلى حد التشفي بالجياع، لو لم يعبروا عنها بهذا الشكل الفج؟ على قباحتها، تشكل التعبيرات، الفجة في ساديتها، في وسائط الإعلام الحديث، فرصة للتعرف على هذه الظواهر، استكشافها، إدانتها، وربما الحض على انكفائها، على طريقة معالجة الطفح الجلدي.
تراجع، في العام الفائت، الزخم حول قدرة الإعلام التقليدي (ورغبته) على تغطية ما يعتبر
محظوراً، أو واصل تراجعه على الأحرى. عاد الإعلام الحديث ليقوم بدوره منصةً رئيسيةً للتعبير عن أصواتٍ لم يعد لها مكان في منصات الإعلام، أو لكشف المستور من انتهاكات الأنظمة والمجموعات. شهد العام الفائت أرقاماً قياسية في الاعتداء على الصحافة، وأنماطاً جديدة في تقييدها. انتقلنا من الحديث عن اعتقال صحافيين إلى الحديث عن اختطافهم، أو اختقائهم من مكاتبهم. ممارسات مثل توقيف صحافيين، بحجة العمل من دون تصريح، أو المنع من العمل الميداني، أو إتلاف المواد التي تم تصويرها، باتت ظواهر معهودة. بات القضاء السلاح الأمضى في تقييد عمل الصحافيين: بلاغات وملاحقات في حق صحافيين، بتهمة نشر أخبار كاذبة، لنشرهم تحقيقات استقصائية عن فساد مسؤولين. قوانين مكافحة الإرهاب تقيّد أي رواية صحافية، تتناقض مع الرواية الرسمية للعمليات العسكرية. محاكمات أمام القضاء العسكري لصحافيين، بموجب قوانين مكافحة الإرهاب، لأخطاء ارتكبوها، وفي بعض الحالات، لمجرد قيامهم بعملهم.
في مناطق النزاع، بات عمل الصحافة أشبه بالإقدام على الانتحار، حيث احتلت سورية والعراق واليمن وليبيا مراتب متقدمة في إحصاء منظمة "مراسلون بلا حدود" للاعتداءات على طواقم الصحافة للعام الفائت، من اعتقال إلى اختطاف وقتل.. إلى هذا الحصار، يُضاف حصار من نوع آخر، يتمثل بتعميم نموذج الصحافي "الوطني" البوق، تحت عنوان الدفاع عن المصلحة الوطنية، في وجه أعداء الداخل والخارج. سقوط مهني لعل أبرز تعبيراته وأحدثها عنوان صحيفة الأخبار الحكومية المصرية أن مرشد جماعة الإخوان المسلمين، محمد بديع، في السجن "اتفتق"، في إشارة إلى خضوعه لعملية جراحية لمعالجة الفتاق. أمضى المصور الصحافي المصري محمود أبو زيد الملقب شوكان أكثر من 850 يوماً في التوقيف الاحتياطي، لمجرد قيامه بعمله. في رسالته الأخيرة من سجنه، يقول "تحولت إلى شخص فاقد للأمل كلياً". يترافق ذلك مع تصاعد التضييق على الحريات العامة. الموت البطيء في السجون بات وسيلةً جديدةً للإعدام في مصر. المفوضية المصرية للحقوق والحريات أحصت 340 حالة اختقاء قسري لمدنيين بين أغسطس/آب ونوفمبر/تشرين الثاني 2015.
عاد الإعلام الحديث، إذن، ليشكل المتنفس الوحيد لمن لم يعد له مكان في الإعلام التقليدي، إلا أنه لم يعد حكراً على هذه الأصوات، بل بات مجالاً متاحاً للجميع. تفوقت داعش على الجميع في ابتكارات الدعاية الإلكترونية. آلاف المواقع الإخبارية أطلقتها وتمولها أنظمة للدعاية لسياساتها، وشتم أعدائها، وبشكل رئيسي "أعداء الداخل" من صحافيين وشخصيات معارضة وحقوقيين. يواجه هذا المتنفس الأخير خطر الانسداد، إذ تسعى بعض مسودات تنظيم الإعلام إلى فرض رخصة على إطلاق مواقع إخبارية، أو حجبها بحجة الأمن القومي وغيرها..
سجلت أطباق طعام المتخمين تشفياً بالجياع تفوقاً غير مسبوق، في استعراض السادية عبر وسائط الإعلام الحديث، في براعة لا تقل عن "إنجازات" داعش في إدهاشنا... إلى أن تتفتق قريحة أحدهم في تسجيل رقم قياسي جديد في سباق السادية الإلكترونية.
سادية القتل والقمع في العالم العربي ما بعد الثورات ليست جديدة، وليست إلى انحسار مع العام الجديد، بل باتت شعبية هذه الانتهاكات لدى مجموعات واسعة تتخذ من وسائط الإعلام الحديث منبراً مفضلاً للتعبير عن أشكال العنصرية والسادية بطرق مبتكرة، من دون خجل. ليس هؤلاء من العامة الجهلة، كما تفسر عادة هذه التعبيرات. القسم الأكبر من هؤلاء هم من أصحاب الشهادات الجامعية، بل يوقع بعضهم مقالاتٍ في صفحات الجرائد، ويتحدث إلى الإعلام باعتباره محللاً لشؤون المنطقة. بعض هؤلاء قادة للرأي العام، رجال ونساء سياسة، أساتدة جامعيون، صحافيون...
على بشاعة تعبيرات الإعلام الحديث، يشكل استكشاف هذه السادية الإلكترونية واستعراضها فرصة أكثر منه خطراً. هل كان يمكن أن يُخيل إلينا أننا نعيش، إلى جانب أفرادٍ فقدوا إنسانيتهم إلى حد التشفي بالجياع، لو لم يعبروا عنها بهذا الشكل الفج؟ على قباحتها، تشكل التعبيرات، الفجة في ساديتها، في وسائط الإعلام الحديث، فرصة للتعرف على هذه الظواهر، استكشافها، إدانتها، وربما الحض على انكفائها، على طريقة معالجة الطفح الجلدي.
تراجع، في العام الفائت، الزخم حول قدرة الإعلام التقليدي (ورغبته) على تغطية ما يعتبر
في مناطق النزاع، بات عمل الصحافة أشبه بالإقدام على الانتحار، حيث احتلت سورية والعراق واليمن وليبيا مراتب متقدمة في إحصاء منظمة "مراسلون بلا حدود" للاعتداءات على طواقم الصحافة للعام الفائت، من اعتقال إلى اختطاف وقتل.. إلى هذا الحصار، يُضاف حصار من نوع آخر، يتمثل بتعميم نموذج الصحافي "الوطني" البوق، تحت عنوان الدفاع عن المصلحة الوطنية، في وجه أعداء الداخل والخارج. سقوط مهني لعل أبرز تعبيراته وأحدثها عنوان صحيفة الأخبار الحكومية المصرية أن مرشد جماعة الإخوان المسلمين، محمد بديع، في السجن "اتفتق"، في إشارة إلى خضوعه لعملية جراحية لمعالجة الفتاق. أمضى المصور الصحافي المصري محمود أبو زيد الملقب شوكان أكثر من 850 يوماً في التوقيف الاحتياطي، لمجرد قيامه بعمله. في رسالته الأخيرة من سجنه، يقول "تحولت إلى شخص فاقد للأمل كلياً". يترافق ذلك مع تصاعد التضييق على الحريات العامة. الموت البطيء في السجون بات وسيلةً جديدةً للإعدام في مصر. المفوضية المصرية للحقوق والحريات أحصت 340 حالة اختقاء قسري لمدنيين بين أغسطس/آب ونوفمبر/تشرين الثاني 2015.
عاد الإعلام الحديث، إذن، ليشكل المتنفس الوحيد لمن لم يعد له مكان في الإعلام التقليدي، إلا أنه لم يعد حكراً على هذه الأصوات، بل بات مجالاً متاحاً للجميع. تفوقت داعش على الجميع في ابتكارات الدعاية الإلكترونية. آلاف المواقع الإخبارية أطلقتها وتمولها أنظمة للدعاية لسياساتها، وشتم أعدائها، وبشكل رئيسي "أعداء الداخل" من صحافيين وشخصيات معارضة وحقوقيين. يواجه هذا المتنفس الأخير خطر الانسداد، إذ تسعى بعض مسودات تنظيم الإعلام إلى فرض رخصة على إطلاق مواقع إخبارية، أو حجبها بحجة الأمن القومي وغيرها..
سجلت أطباق طعام المتخمين تشفياً بالجياع تفوقاً غير مسبوق، في استعراض السادية عبر وسائط الإعلام الحديث، في براعة لا تقل عن "إنجازات" داعش في إدهاشنا... إلى أن تتفتق قريحة أحدهم في تسجيل رقم قياسي جديد في سباق السادية الإلكترونية.