في القرن العشرين لدينا ثلاثة أسماء في تاريخ ألبانيا شكلت علاقتها بين الشرق والغرب: ملك ألبانيا أحمد زوغو (1922-1939)، والذي كان أيضا رئيس وزرائها ورئيسها الجمهوري، والذي سعى إلى "نقل ألبانيا من الشرق إلى الغرب"، وأنور خوجا (1945-1985) الذي جعل ألبانيا "أول دولة ملحدة في التاريخ" في 1967، وصالح بريشا (1992-1997) الذي "أعاد ألبانيا إلى العالم الحر". وبسبب الحكم الطويل للحزب الشيوعي (1945-1992)، ترسّخت صورة سلبية عن أحمد زوغو وفترة حكمه في الكتب المدرسية. لكن السنوات الأخيرة حفلت بصدور عدة كتب أعادت الاعتبار إليه وإلى دوره في إقامة دولة ألبانية حديثة من تركة عثمانية ثقيلة استمرت حوالى 500 سنة. وفي إثر ذلك أصبحت ألبانيا ذات الغالبية المسلمة، من أوائل الدول الأوروبية التي امتازت بدستور علماني منفتح على الأديان، وسبقت غيرها في منح حق التصويت للمرأة منذ عام 1920.
ومن الكتب التي صدرت في السنوات الأخيرة عن أحمد زوغو(1895-1961) لدينا كتاب "الرئيس الذي أصبح ملكاً: أحمد زوغو" للكاتب والإعلامي المعروف، بلند فوزي، الذي كان قد أصدر كتاباً عن العدو التاريخي له (أنور خوجا) في 2011. ويتميز هذا الكتاب باعتماده على الوثائق وتقارير المخابرات الألبانية والأميركية والبريطانية والمذكرات والصحافة والدراسات المختلفة، لإعطاء صورة موضوعية أكثر عن هذه الشخصية الخلافية، التي تشكّلت من تشابكات وتعقيدات محلية وإقليمية ودولية.
ولد أحمد زوغو عام 1895 في منطقة ماتي، بشمال ألبانيا، لزعيم عشائري يحمل رتبة الباشوية العثمانية (جمال باشا) على حين أن أمه (سعدية) كانت من أعرق العائلات في ألبانيا الوسطى (توبتاني). وقد حرص والده على أن يرسله إلى استانبول مبكرا للدراسة في العاشرة من عمره، حيث حظي بدعم قريبه، أسعد باشا توبتاني، عضو البرلمان العثماني الذي اشتهر في العالم بعد أن ترأس الوفد الذي نقل إلى السلطان عبد الحميد الثاني قرار البرلمان بعزله سنة 1909. في استانبول حظي أحمد أيضا بتعليم متوسط، وانضم إلى الحرس السلطاني بعد أن استقبله السلطان عبد الحميد وربّت على كتفه طالباً منه أن يهتم بتعلم التركية. ولكن الشاب أحمد اختلط بزعماء الألبان في إستانبول، وعمل معهم في سبيل استقلال ألبانيا، وظهر اسمه ضمن الموقعين على وثيقة الاستقلال وهو في السابعة عشرة من عمره.
بعد عودته إلى ألبانيا عشية إعلان الاستقلال في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1912 انخرط في الحركة الوطنية، بيد أن الحرب العالمية الأولى سرعان ما اندلعت ومزقت ألبانيا بين جيوش الاحتلال العالمية. فقد اجتاحت قوات النمسا صربيا في 1914 - 1915 ووصلت إلى ألبانيا، وعمدت فيينا إلى استيعاب زوغو وقوته من المتطوعين في الجيش النمساوي ومنحه رتبة كولونيل مع نقله إلى فيينا كنوع من النفي لعزله عن مصدر قوته في المنطقة. وهكذا بعد إستانبول (1905-1912) كانت فيينا (1916-1919) هي المؤثر الأهم في تكوين أحمد زوغو، حيث بقيت تلهمه بعد عودته إلى ألبانيا المشتتة في نهاية 1919 لإنشاء دولة حديثة من التركة العثمانية الطويلة. فقد كانت إيطاليا قد حصلت في معاهدة لندن السرية عام 1915 على الحقّ في ضم بعض الأراضي الألبانية وتشكيل دولة ألبانية تابعة لها باسم جاذب "دولة ألبانيا الإسلامية" ليكون ذلك غطاء للتخلي عن ألبانيا الجنوبية ذات الغالبية الأرثوذكسية إلى اليونان. ولكن أحمد زوغو شارك مع رموز الحركة الوطنية في الانتفاضة المسلحة، التي أرغمت إيطاليا في 1920 على سحب قواتها وإعادة اللحمة الى ألبانيا كما رسمت حدودها عام 1913.
مع هذه الانعطافة، تشكّلت حكومة وطنية ضمّت أحمد زوغو وزيراً للداخلية وتشكيل مجلس أعلى للدولة، ضمّ الأخير أربعة أعضاء يمثلون الطوائف الدينية في البلاد (الإسلام السني والبكتاشية والكاثوليكية والأرثوذكسية) وأجريت أول انتخابات برلمانية بإشراف وزير الداخلية تميزت بمنح المرأة حق التصويت، لتصبح ألبانيا بذلك من أوائل الدول الأوروبية في هذا المجال. كما شهد عام 1920 اعتماد الحروف اللاتينية لكتابة اللغة الألبانية، حيث كانت الغالبية المسلمة تكتبها بالحروف العربية كالعثمانية، وقبول ألبانيا في عصبة الأمم المتحدة.
ومع تسلّم أحمد زوغو رئاسة الحكومة (1922-1924) برزت ميوله للتخلّص من التركة العثمانية و"نقل ألبانيا من الشرق إلى الغرب"، وسبق بذلك مصطفى كمال، الذي برز آنذاك في تركيا. ويركّز الكتاب هنا على الأمور المشتركة بين الشخصيتين اللتين كان الإعجاب متبادلا بينهما قبل أن يختلفا في عام 1928. فهناك الأصل الألباني لمصطفى كمال (من ناحية الأم) ونشأته في سالونيك ومناستير بالقرب من الألبان، ثم دور إستانبول وفيينا في تكوين الشخصيتين، وإعجاب كليهما بنابليون بونابرت وانخراطهما في قيادة الحركة الوطنية المعارضة لتقسيم البلاد.
في هذا السياق، تحول أحمد زوغو من رئيس للوزراء إلى رئيس للجمهورية (1925-1928)، وهي الفترة التي برزت فيها هوية ألبانيا كدولة علمانية وسبقت في ذلك تركيا الكمالية. فقد حرص أحمد زوغو على التأكيد على الطابع العلماني للدولة مع منح الطوائف الدينية الأربع (الإسلام السني والبكتاشية والكاثوليكية والأرثوذكسية) الحق في إدارة شؤونها الدينية والعلمية بشكل مستقل مع فصلها عن ارتباطها بالخارج (فك الارتباط مع مشيخة الإسلام في إستانبول والفاتيكان في روما والكنيسة اليونانية في أثينا). وفي هذا السياق، أُقر القانون المدني الذي وحّد الألبان لأول مرة في الأحوال الشخصية ومنح المرأة حق الطلاق أسوة بالقوانين الأوروبية، كما منع الطربوش وغطاء الوجه (البرقع) الموروث من العهد العثماني.
ولكن الإعجاب المتبادل بين أحمد زوغو ومصطفى كمال في ما كانا يقومان به لأجل التحديث القائم على التخلص من التركة العثمانية، انقلب فجأة إلى ضدّه، بعدما فضّل أحمد زوغو تحويل ألبانيا من جمهورية إلى ملكية. فنتيجة لذلك، غضب عليه مصطفى كمال لأنه كان يعتبر الجمهورية إحدى دعائم العلمانية على حين أن زوغو تابع نهجه التحديثي بشكل أوسع خلال العهد الملكي (1928-1939). وقد بدأ عهده الجديد بإقرار القانون المدني في 1929، الذي أصبح فيه الألبان سواسية أمام القانون في الأحوال الشخصية بغضّ النظر عن انتمائهم الديني، كما فرض بقانون في 1934 فصل الدين عن الدولة وتوّج ذلك في 1938 بقانون اللباس الذي كان يشمل منع غطاء الوجه (البرقع) وفصل الموظفين الذين يسمحون لأخواتهم أو زوجاتهم بارتدائه. وفي هذا السياق، شجع الملك زوغ الأول، كما أصبح يسمى بعد أن تخلى عن اسمه الأول الذي يوحي بالانتماء إلى طائفة دينية، أخواته البنات على "ترويج" التحديث بظهورهن بالملابس الأوروبية الحديثة، بما في ذلك ملابس السباحة، مما أحدث ضجة كبيرة في البلاد. وفي السنة الأخيرة من حكمه قرّر الملك زوغ أن يتزوج بمسيحية لـ "تعزيز التعايش الديني في البلاد"، فاختار نبيلة مجرية (جير الدين أبوني) لتكون زوجة وملكة لألبانيا، وهو ما احتاج إلى إذن خاص من البابا.
كان زواج الملك بداية لانتكاسات لاحقة، حيث كانت إيطاليا الموسولينية تطمع في السيطرة على ألبانيا وترتب لزواج الملك من نبيلة إيطالية، ولذلك اتخذ القرار باحتلال ألبانيا بعد زواجه، ونفذ خلال مخاض الملكة جيرالدين. ففي اليوم الذي ولد فيه ولي العهد (الأمير ليكا) كانت القوات الإيطالية قد استعدت لغزو ألبانيا. وقد هربت الملكة برضيعها بعد 36 ساعة من ولادته، ولحق بها الملك إلى اليونان لتبدأ رحلة المعاناة حتى وفاته منفياً في باريس 1961.
ذهب الملك أولا إلى باريس وغادرها في يونيو/حزيران 1940 قبل وصول الألمان إليها بساعات إلى لندن، حيث بقي هناك حتى نهاية 1945. خلال هذه السنوات اشتعلت الحرب الأهلية في ألبانيا بين اليمين (الذي كان حزب الملك "الشرعية" من أركانه) وبين اليسار (الحزب الشيوعي الألباني) وانتهت بوصول الشيوعيين إلى الحكم في 1945 الذين قرروا من طرف واحد (دون أي استفتاء) منع الملك من العودة إلى البلاد ثم إعلان الجمهورية في يناير/كانون الثاني 1946. فضّل الملك في هذه الحالة أن ينتقل إلى مصر، التي بقيت تعترف به ملكا وبقيت سفارته الملكية مفتوحة في القاهرة، حيث جاءها مع عدد كبير من الألبان المعارضين للحكم الشيوعي. وقد صادف قدوم الملك إلى القاهرة في 1946 مع انطلاق الحرب الباردة، ولذلك برز أمل جديد في التعاون مع الغرب لتشكيل قوة مسلحة تتسلل إلى جنوب ألبانيا. ولكن الجاسوس البريطاني المزدوج، كيم فيليبي، كان يزود موسكو بتفاصيل العمليات ولذلك كانت أجهزة الأمن الشيوعية تنتظر قدوم هؤلاء المشاركين منذ لحظة وصولهم.
على الرغم من العلاقة القوية، التي ربطته مع الملك فاروق، قرّر الملك زوغ مغادرة مصر في 1951 وباع الدارة التي بناها في الإسكندرية إلى الأمير طلال بن عبد العزيز، ولكن تأخر الأمير في دفع بقية الثمن أدى إلى بقاء الملك زوغ في مصر حيث شهد الثورة في 1952 وربطته علاقة جيدة مع اللواء محمد نجيب. وبعد إلغاء الملكية في مصر في 1953 وتنحّي محمد نجيب في 1954، استعجل الملك زوغ في إنجاز معاملات خروجه بعد أن أغلقت السفارة الملكية الألبانية واعترف النظام الجمهوري الجديد بجمهورية ألبانيا في 1955. ومن الإسكندرية، انتقل الملك زوغ إلى مدينة كان في فرنسا حتى وفاته في 1961، ثم نقل رفاته إلى تيرانا العاصمة بعد إعادة الاعتبار إلى الملكية في ألبانيا.
يبقى القول إن كتاب "من رئيس إلى ملك: أحمد زوغو" يفيد في التعرّف على تجربة تحديث مبكرة في العالم الإسلامي، التي كانت ألبانيا جزءاً منه حتى استقلالها عن الدولة العثمانية في نهاية 1912، وعن شخصية خلافية عانت في حياتها وبعد مماتها من الانتقاد من طرفي نقيض هما: علماء الدين المسلمون، وأركان الحزب الشيوعي الألباني، الذين لم يتركوا له فضيلة تُذكر في التاريخ الرسمي الذي كتبوه وفرضوه على الجميع طيلة نصف قرن.
*أكاديمي كوسوفي/ سوري
ومن الكتب التي صدرت في السنوات الأخيرة عن أحمد زوغو(1895-1961) لدينا كتاب "الرئيس الذي أصبح ملكاً: أحمد زوغو" للكاتب والإعلامي المعروف، بلند فوزي، الذي كان قد أصدر كتاباً عن العدو التاريخي له (أنور خوجا) في 2011. ويتميز هذا الكتاب باعتماده على الوثائق وتقارير المخابرات الألبانية والأميركية والبريطانية والمذكرات والصحافة والدراسات المختلفة، لإعطاء صورة موضوعية أكثر عن هذه الشخصية الخلافية، التي تشكّلت من تشابكات وتعقيدات محلية وإقليمية ودولية.
ولد أحمد زوغو عام 1895 في منطقة ماتي، بشمال ألبانيا، لزعيم عشائري يحمل رتبة الباشوية العثمانية (جمال باشا) على حين أن أمه (سعدية) كانت من أعرق العائلات في ألبانيا الوسطى (توبتاني). وقد حرص والده على أن يرسله إلى استانبول مبكرا للدراسة في العاشرة من عمره، حيث حظي بدعم قريبه، أسعد باشا توبتاني، عضو البرلمان العثماني الذي اشتهر في العالم بعد أن ترأس الوفد الذي نقل إلى السلطان عبد الحميد الثاني قرار البرلمان بعزله سنة 1909. في استانبول حظي أحمد أيضا بتعليم متوسط، وانضم إلى الحرس السلطاني بعد أن استقبله السلطان عبد الحميد وربّت على كتفه طالباً منه أن يهتم بتعلم التركية. ولكن الشاب أحمد اختلط بزعماء الألبان في إستانبول، وعمل معهم في سبيل استقلال ألبانيا، وظهر اسمه ضمن الموقعين على وثيقة الاستقلال وهو في السابعة عشرة من عمره.
بعد عودته إلى ألبانيا عشية إعلان الاستقلال في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1912 انخرط في الحركة الوطنية، بيد أن الحرب العالمية الأولى سرعان ما اندلعت ومزقت ألبانيا بين جيوش الاحتلال العالمية. فقد اجتاحت قوات النمسا صربيا في 1914 - 1915 ووصلت إلى ألبانيا، وعمدت فيينا إلى استيعاب زوغو وقوته من المتطوعين في الجيش النمساوي ومنحه رتبة كولونيل مع نقله إلى فيينا كنوع من النفي لعزله عن مصدر قوته في المنطقة. وهكذا بعد إستانبول (1905-1912) كانت فيينا (1916-1919) هي المؤثر الأهم في تكوين أحمد زوغو، حيث بقيت تلهمه بعد عودته إلى ألبانيا المشتتة في نهاية 1919 لإنشاء دولة حديثة من التركة العثمانية الطويلة. فقد كانت إيطاليا قد حصلت في معاهدة لندن السرية عام 1915 على الحقّ في ضم بعض الأراضي الألبانية وتشكيل دولة ألبانية تابعة لها باسم جاذب "دولة ألبانيا الإسلامية" ليكون ذلك غطاء للتخلي عن ألبانيا الجنوبية ذات الغالبية الأرثوذكسية إلى اليونان. ولكن أحمد زوغو شارك مع رموز الحركة الوطنية في الانتفاضة المسلحة، التي أرغمت إيطاليا في 1920 على سحب قواتها وإعادة اللحمة الى ألبانيا كما رسمت حدودها عام 1913.
مع هذه الانعطافة، تشكّلت حكومة وطنية ضمّت أحمد زوغو وزيراً للداخلية وتشكيل مجلس أعلى للدولة، ضمّ الأخير أربعة أعضاء يمثلون الطوائف الدينية في البلاد (الإسلام السني والبكتاشية والكاثوليكية والأرثوذكسية) وأجريت أول انتخابات برلمانية بإشراف وزير الداخلية تميزت بمنح المرأة حق التصويت، لتصبح ألبانيا بذلك من أوائل الدول الأوروبية في هذا المجال. كما شهد عام 1920 اعتماد الحروف اللاتينية لكتابة اللغة الألبانية، حيث كانت الغالبية المسلمة تكتبها بالحروف العربية كالعثمانية، وقبول ألبانيا في عصبة الأمم المتحدة.
ومع تسلّم أحمد زوغو رئاسة الحكومة (1922-1924) برزت ميوله للتخلّص من التركة العثمانية و"نقل ألبانيا من الشرق إلى الغرب"، وسبق بذلك مصطفى كمال، الذي برز آنذاك في تركيا. ويركّز الكتاب هنا على الأمور المشتركة بين الشخصيتين اللتين كان الإعجاب متبادلا بينهما قبل أن يختلفا في عام 1928. فهناك الأصل الألباني لمصطفى كمال (من ناحية الأم) ونشأته في سالونيك ومناستير بالقرب من الألبان، ثم دور إستانبول وفيينا في تكوين الشخصيتين، وإعجاب كليهما بنابليون بونابرت وانخراطهما في قيادة الحركة الوطنية المعارضة لتقسيم البلاد.
في هذا السياق، تحول أحمد زوغو من رئيس للوزراء إلى رئيس للجمهورية (1925-1928)، وهي الفترة التي برزت فيها هوية ألبانيا كدولة علمانية وسبقت في ذلك تركيا الكمالية. فقد حرص أحمد زوغو على التأكيد على الطابع العلماني للدولة مع منح الطوائف الدينية الأربع (الإسلام السني والبكتاشية والكاثوليكية والأرثوذكسية) الحق في إدارة شؤونها الدينية والعلمية بشكل مستقل مع فصلها عن ارتباطها بالخارج (فك الارتباط مع مشيخة الإسلام في إستانبول والفاتيكان في روما والكنيسة اليونانية في أثينا). وفي هذا السياق، أُقر القانون المدني الذي وحّد الألبان لأول مرة في الأحوال الشخصية ومنح المرأة حق الطلاق أسوة بالقوانين الأوروبية، كما منع الطربوش وغطاء الوجه (البرقع) الموروث من العهد العثماني.
ولكن الإعجاب المتبادل بين أحمد زوغو ومصطفى كمال في ما كانا يقومان به لأجل التحديث القائم على التخلص من التركة العثمانية، انقلب فجأة إلى ضدّه، بعدما فضّل أحمد زوغو تحويل ألبانيا من جمهورية إلى ملكية. فنتيجة لذلك، غضب عليه مصطفى كمال لأنه كان يعتبر الجمهورية إحدى دعائم العلمانية على حين أن زوغو تابع نهجه التحديثي بشكل أوسع خلال العهد الملكي (1928-1939). وقد بدأ عهده الجديد بإقرار القانون المدني في 1929، الذي أصبح فيه الألبان سواسية أمام القانون في الأحوال الشخصية بغضّ النظر عن انتمائهم الديني، كما فرض بقانون في 1934 فصل الدين عن الدولة وتوّج ذلك في 1938 بقانون اللباس الذي كان يشمل منع غطاء الوجه (البرقع) وفصل الموظفين الذين يسمحون لأخواتهم أو زوجاتهم بارتدائه. وفي هذا السياق، شجع الملك زوغ الأول، كما أصبح يسمى بعد أن تخلى عن اسمه الأول الذي يوحي بالانتماء إلى طائفة دينية، أخواته البنات على "ترويج" التحديث بظهورهن بالملابس الأوروبية الحديثة، بما في ذلك ملابس السباحة، مما أحدث ضجة كبيرة في البلاد. وفي السنة الأخيرة من حكمه قرّر الملك زوغ أن يتزوج بمسيحية لـ "تعزيز التعايش الديني في البلاد"، فاختار نبيلة مجرية (جير الدين أبوني) لتكون زوجة وملكة لألبانيا، وهو ما احتاج إلى إذن خاص من البابا.
كان زواج الملك بداية لانتكاسات لاحقة، حيث كانت إيطاليا الموسولينية تطمع في السيطرة على ألبانيا وترتب لزواج الملك من نبيلة إيطالية، ولذلك اتخذ القرار باحتلال ألبانيا بعد زواجه، ونفذ خلال مخاض الملكة جيرالدين. ففي اليوم الذي ولد فيه ولي العهد (الأمير ليكا) كانت القوات الإيطالية قد استعدت لغزو ألبانيا. وقد هربت الملكة برضيعها بعد 36 ساعة من ولادته، ولحق بها الملك إلى اليونان لتبدأ رحلة المعاناة حتى وفاته منفياً في باريس 1961.
ذهب الملك أولا إلى باريس وغادرها في يونيو/حزيران 1940 قبل وصول الألمان إليها بساعات إلى لندن، حيث بقي هناك حتى نهاية 1945. خلال هذه السنوات اشتعلت الحرب الأهلية في ألبانيا بين اليمين (الذي كان حزب الملك "الشرعية" من أركانه) وبين اليسار (الحزب الشيوعي الألباني) وانتهت بوصول الشيوعيين إلى الحكم في 1945 الذين قرروا من طرف واحد (دون أي استفتاء) منع الملك من العودة إلى البلاد ثم إعلان الجمهورية في يناير/كانون الثاني 1946. فضّل الملك في هذه الحالة أن ينتقل إلى مصر، التي بقيت تعترف به ملكا وبقيت سفارته الملكية مفتوحة في القاهرة، حيث جاءها مع عدد كبير من الألبان المعارضين للحكم الشيوعي. وقد صادف قدوم الملك إلى القاهرة في 1946 مع انطلاق الحرب الباردة، ولذلك برز أمل جديد في التعاون مع الغرب لتشكيل قوة مسلحة تتسلل إلى جنوب ألبانيا. ولكن الجاسوس البريطاني المزدوج، كيم فيليبي، كان يزود موسكو بتفاصيل العمليات ولذلك كانت أجهزة الأمن الشيوعية تنتظر قدوم هؤلاء المشاركين منذ لحظة وصولهم.
على الرغم من العلاقة القوية، التي ربطته مع الملك فاروق، قرّر الملك زوغ مغادرة مصر في 1951 وباع الدارة التي بناها في الإسكندرية إلى الأمير طلال بن عبد العزيز، ولكن تأخر الأمير في دفع بقية الثمن أدى إلى بقاء الملك زوغ في مصر حيث شهد الثورة في 1952 وربطته علاقة جيدة مع اللواء محمد نجيب. وبعد إلغاء الملكية في مصر في 1953 وتنحّي محمد نجيب في 1954، استعجل الملك زوغ في إنجاز معاملات خروجه بعد أن أغلقت السفارة الملكية الألبانية واعترف النظام الجمهوري الجديد بجمهورية ألبانيا في 1955. ومن الإسكندرية، انتقل الملك زوغ إلى مدينة كان في فرنسا حتى وفاته في 1961، ثم نقل رفاته إلى تيرانا العاصمة بعد إعادة الاعتبار إلى الملكية في ألبانيا.
يبقى القول إن كتاب "من رئيس إلى ملك: أحمد زوغو" يفيد في التعرّف على تجربة تحديث مبكرة في العالم الإسلامي، التي كانت ألبانيا جزءاً منه حتى استقلالها عن الدولة العثمانية في نهاية 1912، وعن شخصية خلافية عانت في حياتها وبعد مماتها من الانتقاد من طرفي نقيض هما: علماء الدين المسلمون، وأركان الحزب الشيوعي الألباني، الذين لم يتركوا له فضيلة تُذكر في التاريخ الرسمي الذي كتبوه وفرضوه على الجميع طيلة نصف قرن.
*أكاديمي كوسوفي/ سوري