"لم نعد نطلب السعادة، فقط قدراً أقلّ من الألم". اقتباس متداول لكاتب القصص القصيرة والروائيّ والشاعر تشارلز بوكوفسكي (1920 - 1994) الذي أبصر النور في ألمانيا تحت اسم هينريش كارل بوكوفسكي قبل أن يحمله والداه إلى الولايات المتحدة الأميركيّة وهو في الثالثة من عمره. ليس بوكوفسكي الذي ابتلى بآلام مختلفة على مدى سني حياته موضوع هذا النصّ، إنّما ما يدور حوله ذلك الاقتباس الذي يكاد يكون لسان حال كثيرين من الناس تختلف أسباب ألمهم.
والألم، ذلك الشعور الذي يوصَف بالبغيض، ينهكنا مهما كان ضئيلاً إلى درجة الاستنزاف. سواء اشتكينا منه أم لا، نرجو زواله، غير أنّنا نجد أنفسنا وقد اعتدناه في أحيان كثيرة. ويصير من ثوابت وجودنا. هل هو تأقلمٌ أم أنّنا نجحنا في ترويض أنفسنا؟ هل نعتاد الألم بالفعل أم أنّه يتحكّم بنا فيجعلنا تحت رحمته غير قادرين على رفع الصوت وتبنّي خيار آخر؟ وفي لحظات يقظة، نعود لندرك كم هو شعور بغيض، راجين زواله من جديد وآملين بقليل من السعادة... ذلك الشعور المحبّب.
نسبيّة هي السعادة. كذلك هو الألم. وفي حين لا تجوز المقارنة بين ألم يتحكّم بواحد منا وبين آخر يصيب ثانياً أو ثالثاً أو رابعاً، فإنّ ثمّة آلاماً يصحّ وصفها بالجماعيّة تأتي لتُضاف إلى تلك الفرديّة. شعوب ومجتمعات كثيرة خبرت الألم الجماعيّ، ولعلّ الأسوأ هو أن يُستعاد مرّات ومرّات فيما التاريخ يعيد نفسه أو محطّات منه على أقلّ تقدير. ويتشبّث الألم الجماعيّ كذلك بكلّ فرد على حدة، هو المرتبط بأزمات عامة.
أزمة عامة. هذا ما يحدث في لبنان اليوم. لا شكّ في أنّ أهل البلاد يَخبرون ألماً جماعيّاً. قد يكونون كذلك بأكثريّتهم... حتى لا نُتّهَم بالشموليّة. هو ألم يتكرّر. أجيال عدّة سبق أن عانته، بتفاصيل مشابهة وأخرى مغايرة. حصل ذلك في محطّات مختلفة من الحروب التي وقعت على هذه الأرض ووسط أزمات هزّتنا على أكثر من صعيد.
ويَستحضر الواقع اليوم مشاهد من الأمس. هي مشاهد ظننا أنّها وُثّقت في محفوظات الذاكرة نستجلبها حين نرغب في سرد بعض أو كثير ممّا خبرناه مذ أبصرنا النور في هذه البقعة من المعمورة. هكذا هُيّئ لنا، فيما الحقيقة مغايرة.
وتتكرّر تلك المشاهد، تتخلّلها تباينات يصحّ وصفها بالضئيلة تتعلّق بتفاصيل أمكنة أو وجوه أو تواريخ أو غير ذلك. أحياء وبلدات ومدن في العتمة... أناس في طوابير طويلة أمام الأفران... أرتال من المركبات أمام محطّات المحروقات... متاجر مزدحمة خلت رفوفها من البضائع بعدما نفدت أكياس الشمع والعدس والأرزّ وما إليها... حوارات حول تدهور الليرة اللبنانيّة وانهيارات جماعيّة. بعض من مشاهد حقيقيّة كثيرة وإن طُرحت أسئلة حول حقيقة الأزمة... حقيقة الأزمات. ونشعر باختناق ظننا أنّه صار من الماضي، راجين قدراً أقلّ من الألم.