ربّما يجهلُ كثيرون أن شرارة حركة الاحتجاجات العمالية والإضرابات قد انطلقت من الولايات المتحدة، وأن نقاباتهم هي التي ألهمت العالم في القرن التاسع عشر، وأدّت إلى اعتبار الأول من مايو/أيار عيد العمّال العالمي. لا يحتفلُ الأميركيون مثل بقية العالم بالأول من مايو/أيار، بل يكتفون بالاحتفال بـ"يوم العمل" في الإثنين الأول من شهر سبتمبر/أيلول من كل عام، وعادة ما يأخذ طابعاً مسلياً ومرحاً ويختلف عن طقوس العيد في بقية دول العالم.
بدأت القصّة قبل أكثر من 129 عاماً، وتحديداً عام 1886 الذي شهد تكوين اتحادات للعمال في الولايات المتحدة. وكانت الانطلاقة من خلال احتجاج عمال المصانع في مدينة شيكاغو، أو ما عرف باسم إضرابات ساحة هايماركيت في الأول من مايو/أيار عام 1886، والتي رفعت مطالب عدة، أهمها تقليص ساعات العمل إلى ثماني ساعات يومياً، ولمدة خمسة أيام في الأسبوع، ورفع الأجور، وتقديم ضمانات اجتماعية.
في ذلك الوقت، أدت الإضرابات إلى مقتل ستة عمال على أيدي قوات الشرطة، تلتها إضرابات هايماركيت التي جاءت احتجاجاً على العنف. هذه الأحداث أدت إلى اعتقال قادة نقابات العمال، والحكم على عدد منهم بالسجن، بحجة ضلوعهم في أعمال عنف وقتل ضابط، علماً أنه تبين لاحقاً أن عدداً منهم لم يكن موجوداً أصلاً في مكان الاحتجاجات، لكنهم أعدموا مع ذلك. هذه الأحداث كانت بمثابة "ثورة مضادة لإخماد نجاحات العمال"، بحسب الكاتب والناشر الأميركي ألكسندر تراختنبيرغ، الذي كتب عام 1932 مقالاً مطولاً حمل عنوان "تاريخ الأول من أيار".
وخلال المؤتمر العالمي للحركات العمالية الذي عقد في باريس في الرابع من يوليو/تموز عام 1889، استمعت الوفود إلى كلمة الوفد الأميركي عن الإضرابات ومطالبة العمال بيوم عمل لا يتجاوز الثماني ساعات، ليعتمد بعدها الأول من مايو/أيار يوماً عالمياً ليتظاهر فيه العمال في كل بلد.
أيضاً، يرتبط "عيد العمل" بتاريخ نضالي. أشار تراختنبيرغ إلى أنه عام 1893، شارك اتحاد عمال سكك الحديد في إضراب لمساندة العمال في شركة "بولمان" الشهيرة. وأعلن الرئيس الأميركي غروفر كليفلاند آنذاك أن الإضراب جريمة فدرالية. بعدها، اعتقل رئيس اتحاد عمال السكك يوجين دبز، وحل الاتحاد، ووقع عمال الشركة تعهداً بعدم الإضراب ثانية. وواجه كليفلاند احتجاجات عارمة بسبب سياساته، فلم يكن منه إلا تمرير قانون يقضي بإعلان الأول من أيلول/سبتمبر عيداً للعمال.
ولم يكن المهاجرون العرب، وغالبيتهم من الطبقة العاملة، بمعزل عن الحركات الاحتجاجية. يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة "كانساس"، مايكل سليمان، إن العرب الأميركيين "لعبوا دوراً هاماً في اتحادات العمال، وكانوا في الصفوف الأمامية في إضراب شارك فيه 25 ألف عامل نسيج في مدينة لورنس عام 1912". ويؤكد الناشط والنقابي، مناضل حرز الله، لـ"العربي الجديد" أن "العمال العرب في كاليفورنيا، وخصوصاً في الزراعة والموانئ وصناعة السيارات في ديترويت وديربورن في ولاية ميشيغان، لعبوا دوراً مهماً"، مشيراً إلى مقتل عامل يمني، هو ناجي فضل الله عام 1973.
وعام 1898، قال صامويل غومبرز، الذي كان رئيس اتحاد نقابات العمال في الولايات المتحدة آنذاك، إن عيد العمال هو "اليوم الذي تطلع إليه أولئك الذين كدحوا في القرون الماضية، كي يناقشوا حقوقهم، لا لكي يستطيع العمال اليوم أن يضعوا أدواتهم جانباً ليحتفلوا بيوم عطلة فحسب، بل لكي يقفوا كتفاً إلى كتف معاً ويسيروا قدماً ويشعروا بقوتهم".
لكن عيد العمل اليوم لا يعني للغالبية العظمى من المواطنين شيئاً أكثر من يوم عطلة في الصيف. ولم يعد مناسبة للتذكير بحقوق العمال وتاريخهم النضالي. وبعدما كان عدد العمال المنتمين إلى النقابات يصل إلى 50% في خمسينيات القرن الماضي، فقد انخفض إلى أقل من 15% في منتصف التسعينيات.
العمال يتكاتفون
خلال الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالولايات المتحدة، ركزت النقاشات على حقوق الطبقة المتوسطة. لكن عدداً من العمال، وخصوصاً المهاجرين، ما زالوا يعانون من ظروف عمل سيئة تفتقر إلى كثير من الضمانات. في السياق، يقول الناشط والنقابي، مناضل حرز الله، إننا "نشهد، خلال السنوات الأخيرة، تغيراً ملحوظاً، وبدأ العمال المهاجرون تنظيم أنفسهم، وإعطاء أهمية للأول من مايو/أيار، وإن بشكل غير رسمي".