تقضي الحاجة أم صبر (80 عاماً) يومها في أحد مخيمات النزوح في بغداد، تتوكأ على عصاها القديمة المصنوعة من نبات الخيزران لتعوضها عن ساقها التي فقدتها في قصف استهدف حيهم السكني في الأنبار. تتجول حول خيمتها البسيطة لتتنشق بعض الهواء وتدندن بصوت خافت: "يا صبر عن الديار مشردين.. هذي آخرها بمخيم يا صبر".
تتحدث أم صبر لـ"العربي الجديد" وهي تحاول أن تعدل قامتها وترفض الجلوس: "ما زلنا أقوياء بالرغم من المحنة التي نعيشها.. لن ننحني مهما جاءتنا مصائب. لكنني أخشى كلّ يوم أن أفقد أحد أولادي".
تروي ما شاهدته من أهوال الحرب ورحلة النزوح الطويلة بحسرة: "كانت القذائف والصواريخ تتساقط علينا من كلّ جانب ولا نعرف ماذا نفعل. شاهدت الكثير من أشلاء النساء والأطفال متناثرة في الشارع أو تحت الأنقاض. سقط صاروخ على منزلنا فقُتل ولدي الكبير وبُترت ساقي وجُرح أبنائي الآخرون".
تضيف: "عندما قررنا النزوح من مدننا اضطررنا إلى عبور الصحراء مع آلاف النازحين رجالاً ونساءً وأطفالاً مشياً لأكثر من 12 ساعة. مات كثيرون في الطريق خصوصاً الأطفال". وتتابع: "كان كيوم القيامة. حتى وصولنا إلى معبر بزيبز حملني أولادي على ظهورهم بالتناوب. لكنّ الحكومة أغلقت الجسر في وجهنا. لا أدري كيف أسعفني الحظ بالعبور نحو بغداد بعد انتظار طويل".
تلف الحاجة أم صبر سيجارتها على الطريقة القديمة، وتقول بابتسامة: "التدخين مضر بالصحة والسجائر الحديثة مليئة بالمواد المضرة، ولهذا فأنا أدخن التبغ العربي الطازج".
أم صبر لا تكاد تتحمل معاناة النزوح لولا أولادها وأحفادها، الذين يتجمعون حولها لتحكي لهم حكايات السلاطين والملوك والانقلابات والثورات في العراق. تشد من عزيمتهم: "العراق مر في ظروف أصعب من هذه وسيتعافى.. لكن عليكم أن تصبروا قليلاً".
لا تكتفي بالحكايات التي تقصها لأحفادها بل تدندن ببعض مواويل العتابا الشعبية، التي تستذكر فيها آلام الغربة والبعد عن الديار والشوق لمنزلها وجيرانها.
يسمّيها أهل المخيم "البركة". هي تتفقد أحوالهم بالرغم من معاناتها وكبر سنها وتحثهم على الصبر، مع تأكيدها على أنّ الفرج قريب. لكنّ أم صبر عندما تتذكر ابنها الذي مات بالقصف، الذي استهدف مدينتهم تغرورق عيناها بالدموع. تقول: "مثلما أقص على أحفادي قصص السلاطين والملوك والانقلابات والثورات والمآسي، التي مرت بالعراق قديماً، سيقصون هم لأبنائهم وأحفادهم ما يحصل لنا اليوم. وهذا يعني أنّ كل شيء سيصبح يوماً ما من الماضي. لذلك علينا أن نصبر حتى يأتي الفرج".
اقرأ أيضاً: نازحون عراقيون في العراء ومعبر بزيبز لا يزال مغلقاً