يكاد السيناريو يكون نفسه مع الفارق في الظروف والإخراج. التحالف بين دولتين كبيرتين في الشرق الأوسط (تركيا ومصر) وبين واشنطن وموسكو، وصل في الحالتين إلى نهايته بقرار من هاتين الدولتين الشرق أوسطيتين لنقل تحالفهما من قوة عظمى إلى أخرى.
ما يجري الآن بين أنقرة وواشنطن يشبه إلى حدّ بعيد ما حصل بين القاهرة وموسكو في صيف 1972، إذ طرد آنذاك أنور السادات الخبراء العسكريين السوفييت بحجة أن موسكو "أوقفت تزويد مصر بأسلحة هجومية". كانت الذريعة واهية، ولم تكن سوى غطاء لنقل البندقية من الكتف اليسرى إلى الكتف الأميركية اليمنى، وبذلك، انتهت، بشطبة قلم، علاقة بدت لفترة أنها تترسخ استراتيجياً ومفتوحة على المزيد من الترابط.
ويتكرر المشهد الآن، وإن بصيغة مختلفة، ومع تباين الدوافع والغايات. يبدو التحالف التركي- الأميركي سائرا إلى ذات النتيجة، إذ تبتعد أنقرة منذ سنوات عن واشنطن لأسباب من بينها رفض الأخيرة تزويد أنقرة بتكنولوجيا شبكة صواريخ باتريوت مضادة.
تعثر بل إنسداد المفاوضات الجارية بين البلدين إشارة أخرى إلى أن العلاقة الخاصة بين البلدين، التي تعود مسيرة توطدها إلى بداية الخمسينيات من القرن الماضي حين شاركت القوات التركية إلى جانب القوات الأميركية في الحرب الكورية، دخلت طورها الأخير، حيث لم تشفع شراكتهما في حلف "الناتو" جراء تراكم التباعد والشكوك في السنوات الأخيرة، خاصة بعد محاولة انقلاب 2016 التي جعلت من المتعذر التوصل إلى تفاهم حتى حول مسألة يتوافقان عليها من حيث المبدأ والمتعلقة بمنطقة آمنة على الحدود السورية تصر عليها أنقرة ولا تمانعها واشنطن.
الخلاف المستعصي حول مداها وعمقها وطولها "لم يكن بالإمكان تجنبه وكان من الغريب أن يتأخر ظهوره حتى الآن"، كما يقول الباحث شارلز ليستر من "مؤسسة الشرق الأوسط" للدراسات في واشنطن.
ويعود الاستعصاء إلى كونه وليد أزمة متفجرة منذ سنوات بلغت ذروتها مؤخراً، والأرجح أنها تجاوزت نقطة الرجعة، إذ إن مضي أنقرة بصفقة الشبكة الصاروخية المضادة إس- 400 الروسية رغم تحذيرات الحليف الأميركي بحرمانها من المقاتلة الحديثة إف- 35، دلّل على أن أردوغان قرر مغادرة القطار الأميركي والصعود إلى القطار الروسي.
ويأتي الآن موضوع المنطقة الحدودية ليعزز هذا الاعتقاد السائد من حيث إن إصراره، وبتشجيع روسي خفي، على ضرب القوات الكردية، يستهدف جعل القوات الأميركية في شرق سورية بلا حليف وبما قد يحمل ترامب على سحبها، وبالتالي توسيع مدار الاستئثار الروسي بالساحة السورية.
وثمة قراءة ثانية مفادها أن تراجع واشنطن بتدخل من ترامب، عن فرض عقوبات على أنقرة بعد شراء إس– 400، شجّع الرئيس التركي على التمسك بشروطه الحدودية السورية كاملة وبدعم من موسكو التي لم تبدِ أي تحفظ أو اعتراض على استباحة حليفتها الجديدة تركيا للأراضي السورية، ربما لخدمة حساباتها الخاصة، إذ إن التواجد التركي قد يكون له أهميته في موازنة الدور الإيراني في سورية الذي يُقال إنه بدأ يثير تأفف موسكو في الآونة الأخيرة.
التفسيرات متعددة والحسابات متداخلة، إذ تعترف واشنطن بمشروعية الحيثيات الأمنية الحدودية التركية، لكنها لا تخفي ضيقها من أردوغان. لقد وضعها إصراره القاطع وعدم تزحزحه عن مطالبه، أمام ثلاثة خيارات صعبة:
1- إما الرد بحماية الأكراد ولو أنطوى ذلك على خطر الاحتكاك بالقوات التركية الزاحفة إلى مناطق تتواجد فيها قوات أميركية، حيث لوح وزير الدفاع مارك إسبر بهذا الاحتمال، لكن صمت الرئيس ترامب و"تفهمه" لصفقة إس– 400 يُرجح عزوفه عن مثل هذا الخيار.
2- الاحتمال الثاني يكمن في أن يتخلى البيت الأبيض عن الأكراد، وبما يثير اعتراضات قوية في الكونغرس وحتى في الإدارة نفسها.
3- بالنسبة للخيار الثالث، فإنه يرتكز على أن يقدم الرئيس ترامب على سحب القوات الأميركية من سورية، خلافاً للبنتاغون وللفريق المتشدد في الإدارة. وعموماً، فإن جميع الخيارات مكلفة، وتبقى المبادرة بيد أردوغان، بعد فشل محاولات واشنطن انتزاعها منه طوال ستة أشهر من المفاوضات.
ولم تحقق الجولة الحالية التي وصفها المسؤولون بأنها "آخر محاولة"، أي نتائج ملموسة لأن المشكلة أكبر من منطقة آمنة تستخدم كغطاء لتفكيك علاقة انتهى مفعولها وتجري إدارة تصفيتها على دفعات. إنها نهاية لمرحلة وبداية لتوازنات جديدة قيد التبلور في المنطقة، تماماً كما سبق وحصل عام 1972.