21 يونيو 2020
أن تقرأ لوليتا في صنعاء
عندما قرأت لوليتا لأول مرة كنت في الرابعة عشرة من عمري. ولعي بالقراءة جعل الموظف في مكتبة التنوير القريبة من منزلنا آنذاك يعقد معي صفقة مبادلة. اشتري كتابا واحدا كل شهر ويمكنك خلال ثلاثين يوماً مبادلته بأي كتاب آخر بعد قراءته، قال لي! كان عرضا مغريا لأنني كنت أنفق مصروفي على الكتب والمجلات. ويبدو أنه كان قارئا جيدا فهو أول من عرفني على روائع الأدب العالمي، إذا استثنينا سلسلة المكتبة الخضراء التي كان والدي حريصاً على شرائها لنا قبل أن تصبح لي إرادتي الحرة في القراءة.
كنت وصديقاتي مولعات بروايات الجيب، الشياطين الـ13 ورجل المستحيل في البداية ثم انتقلنا لأغاثا كريستي وأحببت شخصية السيدة ماربل وشرلوك هولمز للسير آرثر كونان. لكن من بعد عرض التبادل بدأت التعرف إلى أنطوان تشيخوف، ثم يوهان غوته في رائعته آلام فرتر ثم الفرسان الثلاثة لألكساندر دوما، وذهب مع الريح لمارغريت ميتشل، ولوليتا لنابوكوف وغيرها من الروايات.
لقد كانت المبادلة صعبة بالنسبة لي، لا يستطيع المرء أن يفرط بصديق قيّم حتى لو كان المقابل صديقا قيّماً جديداً. لذلك كنت أحتفظ بكل كتاب تربطني به علاقة حميمة.
قال بورخيس إنه دائما ما تخيل الجنة على شكل مكتبة، ولا أستطيع أن أصف مدى شغفي بها على نحو أفضل. لكن اليوم لا جنة لنا يا بورخيس. لدينا كتب مكدسة في صناديق تنتظر أن نجمعها من عدة دول.
في منتصف مارس/آذار 2015 كنت في القاهرة، وفي هذه المدينة يمكنك أن تجدني بسهولة إن اختفيت، فغالبا ما أكون في طلعت حرب أبحث عن نسخة أصلية لكتاب ما أو في سوق الأزبكية أتمرغ بين الكتب كما تقول والدتي.
في ذلك اليوم اشتريت رواية آذار نفيستي "أن تقرأ لوليتا في طهران". عدت إلى البيت وأنا متحمسة جدا لأن أقرأ سيرة ذاتية لكاتبة إيرانية تتحدث عن لوليتا! لوليتا همبرت أول كتاب أتجرأ على مبادلته، ومن شدة ارتباكي يومها فقد أخذت مقابلها مجلداً أحمر، عندما وصلت البيت اكتشفت أنه يتكلم عن الذهب الأسود!
لوليتا رواية مثيرة للجدل، من البداية يحاول الكاتب إقناعك أنها مذكرات سجين حقيقية ويبدأ بسرد قصته وذكرياته وولعه بطفلة صغيرة، يسرق تعاطفك معه وينجح في تحويل الضحية إلى جانٍ والجاني إلى ضحية. ألّفها فلاديمير نابوكوف ونشرها باللغة الإنكليزية عام 1955 من باريس، لأن أميركا منعت نشر رواية اعتبرتها فاضحة في ذلك الوقت.
أراد نابوكوف أن يلفت نظر العالم لظاهرة الشذوذ الجنسي، وكتب عنها قصة عندما كان في روسيا، لكنها لم تلق رواجا، وظلت الفكرة تراوده حتى كتب لوليتا بعد بحث مطوّل وترحال بين المدن الأميركية.
طبعا عندما قرأتها لأول مرة لم أفهم كل هذه المعاني، فوالدتي تزوجت وعمرها 12 عاما بوالدي الذي يكبرها بعشرة أعوام. وإحدى صديقاتي في الصف كانت ترتب لحفل زفافها في ذلك الوقت. كنا في الصف التاسع وكانت الثانوية هي موسم الحصاد.
ومع ذلك فقد قرأت لوليتا وناقشت فكرتها مع والدتي، قلت لها ما الضير أن يحب الرجل فتاة صغيرة فقالت بإيجاز: كل سنّ يضحك لسنّه.
ومع أن علاقتي بوالدي كانت كعلاقة الأصدقاء فنحن ندردش بدون حرج عن أي شيء وكل شيء، إلا أن لوليتا لم تجد لها مكانا في مكتبتي، أعدتها اليوم الثاني مباشرة، وضعتها في الرف وأخذت الذهب الأسود..
المرات الوحيدة التي كنت أخفي فيها كتبي عن أحدهم، كانت عندما نذهب في رحلة مدرسية لمعرض الكتاب، كنت أشتري كتابين أو ثلاثة للتمويه على المعلمة، ونخبّئ البقية أنا وصديقاتي تحت المقاعد.
عندما بدأت في قراءة لوليتا في طهران، كتبت ساخرة على فيسبوك ما الفرق بين إيران والسعودية؟
كنا قد سمعنا عن الحوثيين القادمين من كهوف مران وعن تشددهم وتزمتهم وأنهم في صعدة وعمران منعوا الأغاني وأجبروا النساء على ارتداء الجلابيب وعن مداهمة البيوت والمكتبات، وعندما حاولنا التحقق أجابت ليبراليات الجماعة في صنعاء: بتصدقوا الكذب؟!
وعندما دنس الحوثي صنعاء لأول مرة في سبتمبر/ أيلول 2014 لم يتجرأ على ممارسة قذارته دفعة واحدة. لكني أتذكر الخوف الذي كان يتعقبنا ونحن ننتقل من شارع لآخر ونرى جنوده في كل مكان.
لم أنهِ رواية لوليتا في طهران، قرأت حوالي 300 صفحة ،ولم أستطع إكمالها بعد أن تدخل التحالف للقضاء على الحوثيين. لا أنكر لقد فرحت في أول يومين اعتقدت أن الأمر لن يستغرق سوى عدة أيام، لكن الواقع للأسف لم يكن يوما مساويا للحلم. لا نحتاج سوى لثوان معدودة لنحلم، لكن ما أن نستيقظ حتى نجد أننا نحتاج عمرا بأكمله لنعيش تلك اللحظة الساحرة. منذ ذلك اليوم أدركت تماما وبدون شك أن لعنة الشتات قد حلت علينا كيمنيين.
في 2016 عدت إلى صنعاء كنت قد حلمت كثيرا وأنا بعيدة عنها، عدت وكلي إصرار أن لا أخرج منها ثانية، أن أنشئ مسرحا وأؤلف قصصا وأغانيَ وأتنقل بين القرى. وبعد أن وصلت قلصت حلمي، وقلت فليكن كافيه صغيراً في قريتنا نقدم فيه الشاي والقهوة مع الكتب والعروض المسرحية. شاءت الأقدار أن يتحول حلمي بشكل دراماتيكي إلى كابوس وعودتي إلى ندم، فكل يوم كنت أتأكد أكثر أن هذه المدينة تتطهرن وبقذارة أيضا.
اليوم حُظرت صنعاء والمحافظات التي تحيطها من الحياة تماما، لا ماء ولاغذاء ولا أدوية ولا شبكة إنترنت ولا أي وسيلة للتواصل مع العالم الخارجي.
أن تقرأ لوليتا في صنعاء؟! هل سيعرف الشاب اليمني يوما ما هي لوليتا؟! أم أنها ستظل رمزا لـ+18 في مخيلته فقط. هل سيتعرف اليمني إلى لوليتا أم سيكتفي بمعرفة علي وحسين؟ هل ستعرف الفتاة من هي سكارليت ومس ماربل و دولاريس أما أنها لن تعرف إلا فاطمة الزهراء وزينب؟ هل ستبادل طفلة مصروفها بكتاب أم أنها ستتبرع به لطلقة، هل سنجد طالبات يتحلقن على كتاب أم أن أعظم ما أنتجته الحوثية هن زينبيات متحلقات حول جثة؟!
حاليا كل ما أعرفه هو أنك لن تقرأ لوليتا في صنعاء. صنعاء هي لوليتا.