05 يونيو 2017
أوباما الضعيف
يكثر النقد الموجه إلى الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بسبب سياساته في المنطقة العربية، وتتشارك في هذا النقد أطراف متعددة، تبدأ من صقور الحزب الجمهوري، أمثال عضوي الكونغرس، جون ماكين وليندسي غراهام، وتمتد إلى بعض حلفاء واشنطن الإقليميين، ولا تنتهي بمجموعاتٍ من الإسلاميين واليساريين "المتلبرلين"، المتلهفين لتدخل أميركي واسع، ينصرهم على خصومهم في الساحات العربية. محور نقد هذه الأطراف يتمثل في ما يعتبرونه "تقاعس" أوباما عن التدخل العسكري المباشر في الأزمة السورية، والعمل بشكل أكثر فاعلية داخل المنطقة، وهم يرون أن ما يبديه أوباما من حذّر تجاه التدخل في أزمات المنطقة المشتعلة، دلالة على الضعف، المؤدي إلى خسارة استراتيجية للولايات المتحدة، وخسارة حلفائها، ضمن الصراع في المنطقة وعليها.
لفهم سياسة أوباما في منطقتنا، لا بد من العودة إلى اللحظة التي تولى فيها الرئاسة، حيث كانت ورطة احتلال العراق واضحة، وكان على أوباما مواجهة ميراث جورج بوش الابن، والعمل على معالجة الإشكالات التي خلَّفها. وهكذا، بنى أوباما سياسته تجاه المنطقة على التراجع خطواتٍ إلى الوراء، بسحب القوات الأميركية من العراق، والتخفيف من حجم التدخلات، وتفعيل الوسائل الدبلوماسية أكثر، مع المحافظة على ضبط النفس، وإعادة الدفء إلى العلاقة مع الحلفاء الأوروبيين، والعمل ضمن تحالف واسعٍ معهم، بدلاً من العمل منفرداً على طريقة بوش، وتحميل الحلفاء الإقليميين مسؤوليات أكبر بخصوص ملفات المنطقة، والتفرغ لإصلاح الأوضاع الاقتصادية ومعالجة الأزمة المالية.
التراجع الذي فرضه إرث بوش، والرغبة في عدم تكرار أخطائه، والحذر من الدخول في حربٍ شاملة في المنطقة، لا يعني الضعف بالضرورة، بل يعني العمل، ضمن وسائل مختلفة، عن نهج بوش الاندفاعي. يشكل نهج أوباما تجاه الملف النووي الإيراني نموذجاً مهماً، فقد سعى أوباما، من خلال فرض عقوبات اقتصادية تصاعدية على إيران، إلى تفعيل القوة الأميركية والغربية الاقتصادية، لانتزاع تنازلاتٍ إيرانية في الملف النووي، وخرج باتفاقٍ يلبي المطالب الأساسية لكل الأطراف، ويمنع الانزلاق إلى حربٍ شاملة، وكان قوياً في فرض وجهة نظره داخل أميركا، ووقف في وجه لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية "أيباك". كذلك، يمكن الحديث عن مواجهة الروس في أوكرانيا، بالعقوبات الاقتصادية، بوصفها نموذجاً آخر لسياسات المواجهة، القائمة على استخدام الوسائل التي لا تقود إلى التورط في حروبٍ شاملة.
لكن استخدام السلاح الاقتصادي لا يعني أن التدخلات والعمل العسكري توقفا، بل أُعيد إنتاجهما ضمن سياسة "التدخل المحسوب" الذي يقلل الكلفة على الأميركيين، ويواصل، في الوقت نفسه، الحرب على الإرهاب، وتحقيق الأهداف الأميركية في المنطقة. شكلت الطائرات بدون طيار نموذجاً لهذه السياسة، فقد ضربت في اليمن وأفغانستان، وقتلت الآلاف (معظمهم مدنيون)، ثم جاء التدخل في ليبيا، ليؤكد هذه السياسة التي تعتمد على تقليل الكلفة، ووجود حلفاء محليين قادرين على القيام بالمهمة على الأرض.
في سورية، لم يكن أوباما بعيداً، وعَمِد إلى التدخل الجزئي، عبر تدريب مجموعاتٍ من
المعارضة السورية وتسليحها، ودعمها لوجستياً واستخباراتياً، لكنه لم يكرر التدخل في ليبيا، رافضاً الانجرار إلى حربٍ واسعة، ومراعياً التوازنات التي فرضت نفسها عليه، بموقف روسيا والصين المناهض لأهدافه في سورية، وموقف إيران وحلفائها. ضمن هذا التوازن، اختار أوباما تغييراً للأولويات، يقضي بمحاربة تنظيم الدولة، وتشكيل تحالفٍ دولي، تعزّزه قوى محلية داخل سورية والعراق، لمحاربة التنظيم.
التردد والارتباك يظهران في سياسة أوباما، خوفاً من التورّط على طريقة بوش، لذلك، حافظ أوباما على حجم التدخلات الذي رسمه، رافضاً جَرَّهُ إلى تدخلٍ مكلف. الإحجام عن دفع كلفةٍ ماديةٍ وبشرية، أمرٌ فرضته توازناتٌ دولية جديدة، وضعفٌ أميركي سبَّبَته حروب بوش، أي أنه ليس ضعفاً مرتبطاً بشخص أوباما الذي حاول المحافظة على دورٍ أميركي، ضمن نطاق محدد، وإنْ كان قد أخفق بفعل عوامل مختلفة.
أمرٌ آخر أظهر ارتباك أوباما، هو الربيع العربي، فقد كان تحدياً حقيقياً لإدارته، من حيث محاولته استيعاب الثورات العربية، الموجهة، بالأساس، ضد النظام الإقليمي الذي ترعاه أميركا، وقد كان أقطاب إدارته، بالإضافة إلى مستشارين من إدارة الرئيس بيل كلينتون، يرون أهمية معالجة اهتراء النظام الإقليمي، وتآكل شرعية الأنظمة الحليفة، عبر إصلاحاتٍ تدفع "بالإسلام المعتدل"، ممثلاً بالإخوان المسلمين، إلى الواجهة، لمواجهة السلفية الجهادية، مستلهمين النموذج الإسلامي التركي، المؤكد على عضويته في حلف الناتو، وشراكته الاستراتيجية مع أميركا.
القبول بوصول "الإخوان" إلى الحكم، ونسج التفاهمات معهم، أوقع أوباما في ورطة، لأن الحلفاء الإقليميين رفضوا تغيير النظام الإقليمي. وهكذا، وقع الارتباك بين تجديد بنية المصالح الأميركية في المنطقة والمحافظة على البنى القديمة، وانتهى هذا الارتباك إلى القبول تدريجياً بإسقاط "الإخوان" في مصر، وإسقاط التجربة الديمقراطية، والقبول، أيضاً، برأي الحلفاء التقليديين في ملفاتٍ أخرى لإرضائهم.
السياسات الأميركية الحالية، والارتباك الذي تُحدِثُه، نتيجة لمحاولة قوة عظمى التكيّف مع اكتشافها حدود قوتها خلال العقد الماضي، ولا علاقة له بضعف الرئيس أوباما شخصياً، لكن هناك حنيناً عند كثيرين، لاستعراض القوة الأميركية على طريقة بوش، غير أن نتائج مغامرات "الكاوبوي" الفاشلة جعلت هذا الاستعراض مستبعداً.
لفهم سياسة أوباما في منطقتنا، لا بد من العودة إلى اللحظة التي تولى فيها الرئاسة، حيث كانت ورطة احتلال العراق واضحة، وكان على أوباما مواجهة ميراث جورج بوش الابن، والعمل على معالجة الإشكالات التي خلَّفها. وهكذا، بنى أوباما سياسته تجاه المنطقة على التراجع خطواتٍ إلى الوراء، بسحب القوات الأميركية من العراق، والتخفيف من حجم التدخلات، وتفعيل الوسائل الدبلوماسية أكثر، مع المحافظة على ضبط النفس، وإعادة الدفء إلى العلاقة مع الحلفاء الأوروبيين، والعمل ضمن تحالف واسعٍ معهم، بدلاً من العمل منفرداً على طريقة بوش، وتحميل الحلفاء الإقليميين مسؤوليات أكبر بخصوص ملفات المنطقة، والتفرغ لإصلاح الأوضاع الاقتصادية ومعالجة الأزمة المالية.
التراجع الذي فرضه إرث بوش، والرغبة في عدم تكرار أخطائه، والحذر من الدخول في حربٍ شاملة في المنطقة، لا يعني الضعف بالضرورة، بل يعني العمل، ضمن وسائل مختلفة، عن نهج بوش الاندفاعي. يشكل نهج أوباما تجاه الملف النووي الإيراني نموذجاً مهماً، فقد سعى أوباما، من خلال فرض عقوبات اقتصادية تصاعدية على إيران، إلى تفعيل القوة الأميركية والغربية الاقتصادية، لانتزاع تنازلاتٍ إيرانية في الملف النووي، وخرج باتفاقٍ يلبي المطالب الأساسية لكل الأطراف، ويمنع الانزلاق إلى حربٍ شاملة، وكان قوياً في فرض وجهة نظره داخل أميركا، ووقف في وجه لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية "أيباك". كذلك، يمكن الحديث عن مواجهة الروس في أوكرانيا، بالعقوبات الاقتصادية، بوصفها نموذجاً آخر لسياسات المواجهة، القائمة على استخدام الوسائل التي لا تقود إلى التورط في حروبٍ شاملة.
لكن استخدام السلاح الاقتصادي لا يعني أن التدخلات والعمل العسكري توقفا، بل أُعيد إنتاجهما ضمن سياسة "التدخل المحسوب" الذي يقلل الكلفة على الأميركيين، ويواصل، في الوقت نفسه، الحرب على الإرهاب، وتحقيق الأهداف الأميركية في المنطقة. شكلت الطائرات بدون طيار نموذجاً لهذه السياسة، فقد ضربت في اليمن وأفغانستان، وقتلت الآلاف (معظمهم مدنيون)، ثم جاء التدخل في ليبيا، ليؤكد هذه السياسة التي تعتمد على تقليل الكلفة، ووجود حلفاء محليين قادرين على القيام بالمهمة على الأرض.
في سورية، لم يكن أوباما بعيداً، وعَمِد إلى التدخل الجزئي، عبر تدريب مجموعاتٍ من
التردد والارتباك يظهران في سياسة أوباما، خوفاً من التورّط على طريقة بوش، لذلك، حافظ أوباما على حجم التدخلات الذي رسمه، رافضاً جَرَّهُ إلى تدخلٍ مكلف. الإحجام عن دفع كلفةٍ ماديةٍ وبشرية، أمرٌ فرضته توازناتٌ دولية جديدة، وضعفٌ أميركي سبَّبَته حروب بوش، أي أنه ليس ضعفاً مرتبطاً بشخص أوباما الذي حاول المحافظة على دورٍ أميركي، ضمن نطاق محدد، وإنْ كان قد أخفق بفعل عوامل مختلفة.
أمرٌ آخر أظهر ارتباك أوباما، هو الربيع العربي، فقد كان تحدياً حقيقياً لإدارته، من حيث محاولته استيعاب الثورات العربية، الموجهة، بالأساس، ضد النظام الإقليمي الذي ترعاه أميركا، وقد كان أقطاب إدارته، بالإضافة إلى مستشارين من إدارة الرئيس بيل كلينتون، يرون أهمية معالجة اهتراء النظام الإقليمي، وتآكل شرعية الأنظمة الحليفة، عبر إصلاحاتٍ تدفع "بالإسلام المعتدل"، ممثلاً بالإخوان المسلمين، إلى الواجهة، لمواجهة السلفية الجهادية، مستلهمين النموذج الإسلامي التركي، المؤكد على عضويته في حلف الناتو، وشراكته الاستراتيجية مع أميركا.
القبول بوصول "الإخوان" إلى الحكم، ونسج التفاهمات معهم، أوقع أوباما في ورطة، لأن الحلفاء الإقليميين رفضوا تغيير النظام الإقليمي. وهكذا، وقع الارتباك بين تجديد بنية المصالح الأميركية في المنطقة والمحافظة على البنى القديمة، وانتهى هذا الارتباك إلى القبول تدريجياً بإسقاط "الإخوان" في مصر، وإسقاط التجربة الديمقراطية، والقبول، أيضاً، برأي الحلفاء التقليديين في ملفاتٍ أخرى لإرضائهم.
السياسات الأميركية الحالية، والارتباك الذي تُحدِثُه، نتيجة لمحاولة قوة عظمى التكيّف مع اكتشافها حدود قوتها خلال العقد الماضي، ولا علاقة له بضعف الرئيس أوباما شخصياً، لكن هناك حنيناً عند كثيرين، لاستعراض القوة الأميركية على طريقة بوش، غير أن نتائج مغامرات "الكاوبوي" الفاشلة جعلت هذا الاستعراض مستبعداً.