على وقع اتساع التظاهرات في اليمن وقطع الطرق في عدن وحضرموت، احتجاجاً على انهيار العملة المحلية، والدعوات إلى "عصيان مدني" والمطالبة بخروج القوات السعودية والإماراتية من البلد، تعقد مشاورات جنيف اليمنية، غداً الخميس، بنسختها الثالثة التي ترعاها الأمم المتحدة، والأولى بالنسبة للمبعوث الدولي، مارتن غريفيث. وقد بدأت الأطراف جمع أوراق ملفات شديدة التعقيد والتداخل بين الأمنية والإنسانية والسياسية، تتصدرها مواضيع "بناء الثقة"، على أمل أن يعود المشاركون بما فشلوا في العودة به في محطات التفاوض الثلاث السابقة من جنيف إلى الكويت بين 2015 و2016، وهذه المرة تدفعهم الضغوط الدولية وطول أمد الحرب والأزمة الإنسانية التي تشتد كل يوم.
وأفادت مصادر قريبة من الوفد الحكومي المشارك في المفاوضات، "العربي الجديد"، بأن الجانب الحكومي، وبناء على طلب المبعوث الأممي، الذي يرعى المفاوضات، شرع منذ أسابيع بإعداد رؤيته الخاصة بالمفاوضات والآلية التي يراها للحل ومواضيع المشاورات الأساسية، ومثل ذلك جماعة "أنصار الله" (الحوثيين)، التي أعلنت، الشهر الماضي، تكليف لجنة سياسية من قبل الحكومة التابعة للجماعة (غير المعترف بها دولياً في صنعاء)، بإعداد رؤية الوفد المشارك بالمفاوضات عن الجماعة وحلفائها.
وأكدت المصادر الحكومية، ومثلها التصريحات الصادرة عن المبعوث الأممي وأعضاء مكتبه، أن المشاورات تتمحور حول مواضيع "بناء الثقة" الأساسية، وفي مقدمها ملف الأسرى والمعتقلين، وهو الملف الذي تشكّلت على ضوئه لجنة تفاوضية خاصة، خلال آخر وأكبر جولة مفاوضات شارك فيها الطرفان، متمثلة بمشاورات الكويت بين إبريل/ نيسان 2016 وحتى السابع من أغسطس/ آب من العام نفسه، إذ اعتُبر حينذاك ملفاً ثالثاً إلى جانب اللجنة السياسية والأمنية. ويعد ملف المعتقلين والأسرى في أيدي الحوثيين بامتياز، باعتبار أنهم يعتقلون الآلاف من معارضيهم، بين مدنيين وعسكريين، وحتى أسرى من القوات السعودية جرى أسرهم خلال معارك الحدود. وقد أعدت الحكومة قائمة بأسماء الأسرى، على رأسهم وزير الدفاع محمود الصبيحي، وقائد اللواء 115 مشاة العميد فيصل رجب، ورئيس فرع جهاز الاستخبارات الأسبق في عدن ومحيطها، اللواء ناصر منصور هادي (شقيق الرئيس عبدربه منصور هادي)، ومن أبرز السياسيين المعتقلين، عضو الهيئة العليا لحزب التجمع اليمني للإصلاح، محمد قحطان، وعدد من المسؤولين والمدنيين والعسكريين، اعتقلتهم الجماعة في سجون مختلفة.
وأظهر الحوثيون، وفقاً لمصادر حكومية وأخرى قريبة من مكتب غريفيث، قبولاً مبدئياً بمطلب الإفراج عن المعتقلين، لكنهم يعدون في المقابل قائمة بأسماء مئات إلى آلاف الأسرى والمعتقلين. وبالنسبة إلى الجماعة فإن التجاوب مع مطالبات الإفراج عن جزء من المعتقلين على الأقل، بات حافزاً مهماً لنجاح أي مشاورات وتنازلاً قد لا يكون صعباً، بالمقارنة بالملفات الأخرى الميدانية والسياسية، ومع ذلك، فإن الجماعة قد تربط الإفراج عن الأسرى، من الناحية التنفيذية على الأقل، بجوانب أخرى خاصة بوقف الحرب والتسوية السياسية، وهو ما ألمح إليه، المتحدث باسم الجماعة ورئيس وفدها المفاوض، محمد عبد السلام.
وعلى الرغم من التعقيدات المرتبطة بملف المعتقلين، التي أعاقت تحقيق أي تقدم فيه، في المشاورات السابقة، إلا أنها تعتبر أسهل بالنظر إلى المواضيع الأخرى المفترض أن تتناولها مفاوضات جنيف، والتي تتعلق بالاتفاق على آلية اقتصادية من شأنها أن توحد عمل البنك المركزي اليمني في مختلف المناطق، الخاضعة للحكومة وللحوثيين، بما من شأنه أن يساهم في تخفيف أزمة الانهيار المستمر لأسعار العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، وتسليم مرتبات ما يقرب من مليون موظف في القطاع العام، انقطعت مرتباتهم منذ أكثر من عامين في مناطق سيطرة الحوثيين. ويتطلّب التفاهم حول البنك المركزي اعترافاً من الحوثيين بالمركز الرئيس للمصرف في عدن، منذ إقرار الحكومة نقله في سبتمبر/ أيلول 2016، وبالتالي توجيه الواردات من المرافق والمنشآت الحكومية المختلفة بمناطق سيطرة الحوثيين إلى المصرف المركزي، مقابل التزامه بدفع المرتبات. ومن المتوقع أن تطرح الأمم المتحدة صيغة تضمن بقاء المصرف كهيئة مستقلة تقوم بمهام متفق عليها، وبالتالي الإشراف على أهم المنافذ والموانئ، بما فيها ميناء الحديدة. وكان الحوثيون قد أبدوا قبولاً بخطة الأمم المتحدة الخاصة بميناء الحديدة، لكنهم طالبوا أن يتم توجيه الواردات إلى صنعاء الخاضعة لسيطرتهم، وليس إلى المقر الجديد للمركز الرئيسي للمصرف في عدن.
في السياق ذاته، يأتي ملف الوضع العسكري في الحديدة على رأس مواضيع النقاش، إذ باتت المحافظة محوراً للتطورات العسكرية والجهود الدولية الهادفة إلى التهدئة منذ شهور. وفيما يحتفظ الحوثيون بالسيطرة على المدينة (مركز المحافظة)، وأغلب مناطقها الريفية، باتت قوات الشرعية، المدعومة من التحالف بواجهته الإماراتية، تسيطر على أجزاء واسعة من المديريات الجنوبية القريبة من الخط الساحلي. ونجحت جهود الأمم المتحدة، خلال يونيو/ حزيران ويوليو/تموز الماضيين، بإيقاف التصعيد نسبياً، غير أن الوضع ما يزال بانتظار اتفاق سياسي أو حسم عسكري، لصالح أي من الأطراف. وتطالب الحكومة بانسحاب الحوثيين من المدينة ومينائها الذي يعد شرياناً لأغلب المناطق اليمنية، تصل عبره المساعدات الإنسانية والإمدادات التجارية، وأبرزها الوقود والمواد الغذائية، غير أن الحوثيين يرفضون فكرة الانسحاب، ويطرحون القبول بخطة الأمم المتحدة، التي قدمتها في عام 2017، بجعل الميناء تحت إشرافها أو السماح للمنظمة الدولية بدور رقابي ولوجستي، وبالتالي سحب المبررات التي يضعها التحالف للعملية العسكرية، باتهامه الجماعة باستخدام الميناء لتهريب الأسلحة.
وبالتالي يبقى ملف الحديدة من أكبر التحديات، التي يمثل التوافق حولها من عدمه أساساً يحدد مصير المشاورات، وهو يرتبط ارتباطاً وثيقاً بخطة التوافق حول المصرف المركزي وتسليم المرتبات وكافة الترتيبات الإنسانية، على غرار المطالبة بإعادة فتح مطار صنعاء الدولي أمام الطيران المدني، واتخاذ الإجراءات المختلفة، التي تساهم في تسهيل وصول المساعدات، وكلها متصلة، بالملف العسكري، إذ إن الاتفاق حول هذه المواضيع من عدمه، يعد من صلب التهدئة العسكرية، الضرورية لترافق تنفيذ أي حلول متفق عليها. إلى جانب ذلك، وعلى الرغم من أن الحديث يجري في إطار الترتيبات الإنسانية تحت عنوان "بناء الثقة"، إلا أن الخطة الأممية، التي تقرر المسار السياسي، بما في ذلك الاتفاق حول تشكيل حكومة، تمثل أمراً محورياً، لا مفر من طرحه، على الأقل، من قبل الحوثيين، الذين يشددون على البدء بالشق السياسي الخاص بتشكيل قيادة انتقالية، تكون هي المسؤولة عن تنفيذ مختلف المهام الأمنية والإنسانية. وبما أن جميع المواضيع، من الإنسانية إلى الأمنية والسياسية، متداخلة، فإن نجاح أي مفاوضات يعتمد على مدى تحقيق اختراق في أحدها، إلى جانب الضغط الدولي، الذي كان له دور محوري في الحد من التصعيد العسكري في الحديدة.