05 نوفمبر 2024
أول "نتفليكس" في الإسلام!
محمد طلبة رضوان
كان السلفيون في ميدان التحرير بالآلاف، تجاوزوا فتاوى جاهزة بحرمة المظاهرات، ونزلوا وشاركوا وتجاوبوا مع دولة الميدان، مطالبها، وقوانينها، وتنوعها، واختلافها. كان يصلون في حماية الأقباط. في مشهد مقصود، صعد أحدهم إلى المنصة، واعتذر بوضوح لكل الفتيات غير المحجبات على سابق ظنه فيهن، وقال إنه يحترمهن، مع الاختلاف، ويقدر اختيارهن. لم يشهد الميدان صراعا واحدا بين أبنائه، بالقول أو بالفعل، لا حول الدين، ولا الدولة، ولا الحريات الشخصية، كما لم يشهد حالة تحرّش واحدة. أتحدث عن الأيام الثمانية عشر. لم يكن تكتيكا سياسيا من الإسلاميين، كما يزعم بعضهم الآن، كان شعورا جماعيا بأن ما يحدث أكبر من خلافاتنا، أو بالأحرى بأن خلافاتنا أصغر بكثير من مشهد الميدان. حالة غير مسبوقة من التعالي على الصغائر، والاستعداد، غير المشروط، لاحترام حق الآخرين في الاختلاف الكامل. ولا أزعم أنها استمرت بعد رحيل حسني مبارك شهرا واحدًا!
تبدو لي كثير من صراعاتنا على مواقع التواصل بشأن الدولة وشكلها وقوانينها وعلاقة الدين بها وحقوق الأقليات، والمرأة، والمثليين، هي صراعات المهزومين الذين يبحث كل منهم عن انتصار صغير. لا يعني ذلك أنها صراعات غير حقيقية، أو أن الطرف الآخر الذي يرفض التعايش مع أي قدر من الاختلاف، ويريد تشكيل "كون" يشبهه، وينصاع لشروطه، لا يؤمن بذلك حقًا. أسباب الصراع موجودة، وأفكاره راسخة، ومشرعنة، بيد أن حجمه، وأساليبه، وخطاباته العنيفة التي تصل إلى حد الخوض في عرض ميت، والسخرية من مأساته، والتهوين من آلامه، ووضع "إيموجي" ضحك وسخرية على بوستات التعازي، هذا الغل، المبالغ فيه، والشر الذي يتقرّب صاحبه به إلى الله، ويرفض التراجع عنه، ويتواصل به مع أفراد كتيبته، وقبيلته، ويستنكر على أحدهم أن يخالفه، ويخبره بأن السخرية والتجريس والشماتة واجبةٌ في حق العصاة، وفق تقديره. كل هذه الظواهر هي، في حقيقتها، مظاهر الهزيمة وتمظهراتها، والتي تختلف بحسب قدرة كل فريقٍ على فهم الهزيمة، والوعي بها، وقدرته على التعامل معها وتجاوزها.
في كتابه "أحسن ما سمعت"، يجمع الإمام أبو منصور الثعالبي، رأس المؤلفين وإمام المصنفين، في زمانه، أجمل ما قرأ من الشعر، في اثنين وعشرين بابا، في الإلهيات، والأدبيات، والخمريات... إلخ. وفي أحد أبواب الكتاب الممتع، يرصد الثعالبي ما أعجبه من شعر المثليين، في زمانه، ويتعامل معه وفق معايير فنية، تحتفي بالأشعر والأجمل، بصرف النظر عن المحتوى، معالجة الفكرة لا فحواها، وهو الأساس الفني لتقييم أي عمل إبداعي. والثعالبي هنا لا يدافع عن المثلية، ولا يسوّقها، لكنه يتعامل معها بوصفها من وجوه الحياة، ومن مظاهر الاجتماع الإنساني. يعتقد بحرمته، ويحرّمه على نفسه، لكنه لا ينفي وجوده، ولا يتجاهل أصحابه، أو يخشاهم على أفكاره، خشية صاحب اشتراك "نتفليكس" المعاصر على التطبيع مع المثلية! بل هو يتعامل مع فنونهم التي يجهرون فيها بمثليتهم، ويتغنّون بها، ويحببونها إلى القارئ. يقرأها، وينتقي منها، ويقدمها لجمهوره. يفعل ذلك لأنه أديب ناضج، يكتب لجمهور ناضج، ويعيش في زمانه عزيزاً. لا تسكنه هواجس المؤامرة، ولا تهدّده أفكار "الآخر"، ودينه، وفلسفته، وآدابه، وفنونه، ولا يتحوّل عما يؤمن به لقراءة كتاب أو قصيدة، فالقناعات القوية لا تتبدّل بهذه السهولة، والسذاجة، كما أن القناعات الهشة، التي يهزها التنوع، ويزعجها الاختلاف، لا تستحق عناء الدفاع عنها، أو حمايتها.
يصدر كتاب الثعالبي في طبعات جديدة وتحقيقات جديدة. يلفت نظري أحدها، أطالعه، فإذا بالباب الذي يتناول الثعالبي فيه فنون المثليين، محذوفا! اختار المحقق أن يصحح ما رآه "خطأ" الإمام، ويتدخل بالبتر، إنقاذًا للقارئ من خطر القراءة لأناسٍ لا يشبهونه. عاش الثعالبي في القرن الرابع الهجري، فيما يعيش المحقق الرقيب في القرن الحادي والعشرين الميلادي. الفارق بين وعي المصنف القديم ووعي محققه المعاصر هو الفارق بين نفس سويةٍ منتصرةٍ وأخرى مهزومةٍ تُمارس الإنكار، وتدّعي انتصارا وهميا على خصوم وأعداء متخيلين.
في كتابه "أحسن ما سمعت"، يجمع الإمام أبو منصور الثعالبي، رأس المؤلفين وإمام المصنفين، في زمانه، أجمل ما قرأ من الشعر، في اثنين وعشرين بابا، في الإلهيات، والأدبيات، والخمريات... إلخ. وفي أحد أبواب الكتاب الممتع، يرصد الثعالبي ما أعجبه من شعر المثليين، في زمانه، ويتعامل معه وفق معايير فنية، تحتفي بالأشعر والأجمل، بصرف النظر عن المحتوى، معالجة الفكرة لا فحواها، وهو الأساس الفني لتقييم أي عمل إبداعي. والثعالبي هنا لا يدافع عن المثلية، ولا يسوّقها، لكنه يتعامل معها بوصفها من وجوه الحياة، ومن مظاهر الاجتماع الإنساني. يعتقد بحرمته، ويحرّمه على نفسه، لكنه لا ينفي وجوده، ولا يتجاهل أصحابه، أو يخشاهم على أفكاره، خشية صاحب اشتراك "نتفليكس" المعاصر على التطبيع مع المثلية! بل هو يتعامل مع فنونهم التي يجهرون فيها بمثليتهم، ويتغنّون بها، ويحببونها إلى القارئ. يقرأها، وينتقي منها، ويقدمها لجمهوره. يفعل ذلك لأنه أديب ناضج، يكتب لجمهور ناضج، ويعيش في زمانه عزيزاً. لا تسكنه هواجس المؤامرة، ولا تهدّده أفكار "الآخر"، ودينه، وفلسفته، وآدابه، وفنونه، ولا يتحوّل عما يؤمن به لقراءة كتاب أو قصيدة، فالقناعات القوية لا تتبدّل بهذه السهولة، والسذاجة، كما أن القناعات الهشة، التي يهزها التنوع، ويزعجها الاختلاف، لا تستحق عناء الدفاع عنها، أو حمايتها.
يصدر كتاب الثعالبي في طبعات جديدة وتحقيقات جديدة. يلفت نظري أحدها، أطالعه، فإذا بالباب الذي يتناول الثعالبي فيه فنون المثليين، محذوفا! اختار المحقق أن يصحح ما رآه "خطأ" الإمام، ويتدخل بالبتر، إنقاذًا للقارئ من خطر القراءة لأناسٍ لا يشبهونه. عاش الثعالبي في القرن الرابع الهجري، فيما يعيش المحقق الرقيب في القرن الحادي والعشرين الميلادي. الفارق بين وعي المصنف القديم ووعي محققه المعاصر هو الفارق بين نفس سويةٍ منتصرةٍ وأخرى مهزومةٍ تُمارس الإنكار، وتدّعي انتصارا وهميا على خصوم وأعداء متخيلين.
دلالات
مقالات أخرى
29 أكتوبر 2024
22 أكتوبر 2024
15 أكتوبر 2024