إن الفن باعتباره موازيا للواقع، نابعا منه، ومعبراً عنه، متماهيا مع حياة الأفراد والمجتمع وتجاربهم، وممثلا بامتياز عن تفاصيل الواقع دقيقها وعمومها، هو أكثر المجالات ارتباطا بالموروث الثقافي والفكري والعقائدي للمجتمعات، وأوسع المجالات تعبيرا عن مآلات الفرد والمجتمع وخياراتهما.. إذ تقوم الوقائع والخيارات في حياة البشر على أساس ثوابت تجعلها متماسكة وصلبة. كذلك الفن، قوامه موروث فني وثقافي، هو الأصل والمرسخ والمصدر ومنبع الإلهام لممارسة فنية عربية حديثة. وهذا ما برز حقاً وفعلاً من خلال عرض الشابتين، فايا وريحان يونان، في أيام قرطاج السينمائية 2014 في دورته الخامسة والعشرين، المنعقدة بين 29 نوفمبر/تشرين الثاني و6 ديسمبر/كانون الأول، في حفل الافتتاح أول أيام المهرجان. حيث تضمن عرضهما إلقاءات واستطرادات من إعداد وأداء ريحان، خصصت بدايته للثورة السورية، وأوسطه للوضع العراقي، من ثم يليه اللبناني، وختامه القضية الفلسطينية، في تكامل واضح بين الأداء الصوتي الغنائي لفايا، صاحبة الصوت الجهوري والملامح العربية الصاخبة، في إشارة صارخة إلى اللحمة التي تجمع الشعوب العربية ومصالحها، مقابل خذلان الأنظمة لحلم الشعوب وتطلعاتها.. وحمل العرض اسم "لبلادي.."، ليجيء معززا معاني المواطنة والانتماء للأمة العربية، ومطالب الشعوب وثوراتها..
متمعّنين في تفاصيل هذا العرض الشبابي، والذي امتد على مدار ثماني دقائق، بخلفية بيضاء صامتة مناقضة للصرخة المدوية التي تحملها الكلمات والأنغام، مبرزة بياض أكفان أطفال العرب والحزن الأسود في لباس الفتاتين.. كان العرض بسيطا جدا على المستوى التقني، خاليا من التعقيدات، مترفعا، لكنه طريف جدا على المستوى الإبداعي للفكرة، حيث نخرت الشابتان في عمق الألم العربي، وقدمتاه بأسلوب سهل وبسيط، يصرف النظر عن كل المؤثرات، ويحمل المتلقي حملا على الغوص في نبل الرسالة التي تحملها الكلمات والأنغام.. لم تتردد الشابتان المبدعتان في الانغماس في التعبير عن الوحدة القومية للعرب، والغوص في أعماق ما يمثله الشعور العربي المشترك، والمظلة الهوياتية الكبرى التي تظلل الشباب العربي، وهذا عبر اختيار ألحان بمقامات عربية وأبيات شعرية فصحى، من أجمل ما لحن وغني، في نظري ووفق سمعي، مثل رائعة "زهرة المدائن" و"لبيروت في قلبي سلام" وأشعار أخرى قيلت في العراق وفي الشام وفي مصر.
كان التفاعل بين مضمون العرض ومؤديتيه والجمهور، رهيبا ومؤثرا، لدرجة البكاء والدموع التي لم تختف عن وجوه عدد من الحاضرين، فقد أبصر وسمع فيه الحاضرون ماضيهم التليد، ومستقبلهم الوليد بين الحدود المغلقة وأنهار الدماء ومقابر الشهداء والحروب والدمار.. يجعلك هذا العرض تتذكر وجع أمة كدت تنساه، وصرخة أطفال صممت أذنيك عنها. كان محايدا ومحاكيا للحقيقة الإنسانية الأليمة التي تجهض آمال الحرية والديمقراطية التي سعى الربيع العربي عبثا إلى التنقيب عنها.
كانت هذه بداية رائعة لأيام قرطاج السينمائية، التي سرعان ما عكرت صفوها وأصابت سماءها، لوثة من خلال عدة عروض منتقدة بشكل حقود للإسلاميين وللإسلام السياسي، من خلال عرض واجهة بشعة للإسلاميين في بلاد المغرب العربي، مثل موريتانيا والجزائر، بالإضافة إلى رفض دخول فلم (صراع) الذي يعرض معاناة الإسلاميين زمن القمع والانتهاكات الفظيعة بحق الإنسانية، للمخرج التونسي منصف بربوش، في المسابقة، لأسباب "مجهولة"، علماً أنه الفيلم عينه الذي منع من العرض في السينمات، وهو الذي كلف ما يقارب مليارا و400 ألف دينار تونسي، ويَعرض لمعاناة التونسيين في حقبة المخلوع زين العابدين بن علي من أثار قبضة الدولة البوليسية والنظام المجرم. مما يفتح دائرة كبيرة للتساؤلات، وهالة ضخمة من التناقضات القيمية والمبدئية.. فكيف لمدعي الدفاع عن الإنسان في ممارسة فنية إنسانية أن يجتزئها، موزعا في أعماله صكوك الأحقية في تمثيلية فنية داخل هذا الوسط، فينتقل بذلك الحقد الأيديولوجي من المواكب السياسية إلى المواكب الفنية في حملة ممنهجة واضحة على كل ما يمت بصلة للمشروع الإسلامي، في تواطؤ مبطن لطمس هذا المنهج، وإن كان طمسه اجتزاء للإنسانية ومشاركة في الظلم ومغالطة للتاريخ. فالفن كان مصدرا مهما في كتابة التاريخ كلوحة "جارنيكا" لبابلو بيكاسو التي جسدت مجزرة قرية إسبانية على يد ديكتاتورية نظام الجنرال فرانكو الفاشي، وملهما وشرارة للثورات، مستحضرين بذلك مشهد تناول شارلي شابلن لخيوط حذائه.. ذلك المشهد الذي أشعل ألمانيا.. وهل أشعلت أغلب السينما العربية شيئا غير غرائز المراهقين؟!
هل أصيبت نخبنا العربية بمرض جرثومي حاد يقسمها بين يميني ويساري، وصل درجة الاستعصاء، تطرح أفلاما مسممة تصدرها لعقول شبابية عذراء، ويترجم من خلالها الصراع الجامعي الذي بلغ درجة العنف وادعاء بعض الفئات لامتلاكها وحدها الميدان الفني، متحججة بفتاوى التحريم، مقصية بها الإسلاميين باختلاف مشاربهم منه، بل وأيضا أي مدافع عن حق الإسلاميين في الوجود والمشاركة الديمقراطية في الحياة السياسية ومسيرة التغيير الثوري في بلدانهم.
بين الافتتاحية الجامعة والأفلام المقسمة المفرقة، يخرج الجمهور كل مرة بعقل مشوش وبمشاهدة سطحية يقتل بها الوقت، وكل ما يطاله هو استمتاع بعدد الإعجابات على صورة "سيلفي" يحملها على حسابه في فضاءات التواصل الاجتماعي من إحدى دور السينما..
ويذكر أن مهرجان أيام قرطاج السينمائي، مهرجان سينمائي قدم أكثر من 25 دورة منذ عام 1966، تحت إشراف وزارة الثقافة التونسية، ويأتي مكملا لاحتفاليتي قرطاج الأخريين المعروفتين بـ(أيام قرطاج المسرحية، وأيام قرطاج الموسيقية).
ويبقى السؤال المركزي: هل حقا أصبح الفن غربياً، وساحة للاستقطاب الأيديولوجي الحاد والخطير إلى هذا الحد؟ أم أصبح سلطة ناعمة به تقتل العقول وتحيى متغافلين عن قوله تعالى: "من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا.." إن الإنسان كيان يتجاوز الجسد إلى الروح والفكر.. أقيموا الفن يرحمنا ويرحمكم الله.