حاول ناشطون في "انتفاضة 17 أكتوبر" في لبنان تنظيم عروض سينمائية في بيروت، في "المبنى البيضاوي"، الذي تعرفه المدينة، قبل اندلاع الحرب الأهلية (1975 ـ 1990)، بـ"سيتي بالاس" (إحدى أشهر صالات السينما حينها). هؤلاء أرادوا، كما يبدو، الاستفادة من المبنى ورمزيّته، لتحويله إلى مكان تواصل بين الناس، لكنهم غير متمكّنين من تحقيق المُراد، ربما لأنّ أحوال الشارع أقوى من ضبط عروض تمتد ساعاتٍ مديدة، كما قيل في الدعوة، والعروض كان يُفترض بها أنْ تُقام ليلة 28 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، قبل أنْ يُعلَن عن إلغائها، بانتظار ما تكشفه الأيام المقبلة، كما قيل في أوساطٍ متابعة.
لكن اليوم التالي شاهدٌ على دعوة شبيهة بالسابقة عليها، شكلاً على الأقلّ، ومختلفة عنها بتحديد لائحة أفلام "من لبنان أو عنه، ومرتبطة بالأوضاع السياسية والاجتماعية فيه". أما الجملة التالية، فمكتوبة في الدعوتين: "في حال حصول شيء في الشارع أثناء العرض، ندعوكم/نّ للذهاب والمشاركة". يوم الاثنين حافلٌ بقطع الطرقات بالسيارات، وهذا تقدّم في خطوات صانعي "انتفاضة 17 أكتوبر"، يؤدّي إلى إلغاء العروض. بعد ظهر الثلاثاء معقودٌ على استقالة حكومة سعد الحريري. الغليان في الشارع أقوى وأهمّ. العرض الثاني هذا يُلغى، هو أيضًا.
أما النشاط السينمائي، فيُواجِه رأيين اثنين، يتناقض أحدهما مع الآخر: لا فائدة من عرض سينمائي، ولا حاجة إليه، ولا طائل منه، في لحظاتٍ تاريخية كالتي يعيشها اللبنانيون حاليًا؛ مقابل قولٍ مفاده أنّ العرض جزءٌ من المواجهة، وتأكيدٌ على أنّ الأفلام المختارة، والمُنجزة قبل "انتفاضة 17 أكتوبر" بالتأكيد، تعكس وقائع كثيرة في لبنان، اجتماعًا واقتصادًا وعلاقات ويوميات، ترتبط بمصاعب العيش وتحدّيات البقاء، وبأسئلة المقبل من الأيام. هذا يعني أنْ لا بأس في عرضها، أو في إعادة عرضها مجدّدًا أمام مشاركين في "انتفاضة 17 أكتوبر"، في تلك اللحظات التاريخية نفسها.
"سينما الشعب" اسمٌ يتلاءم مع انتفاضةٍ، يخوضها لبنانيون كثيرون في مناطق وبلدات ومدن لبنانية عديدة، وخارج لبنان أيضًا. تعبير كهذا يبقى عنوانًا للدعوتين. مضمون الدعوة الأولى معقودٌ على نوعٍ محدّد من الأفلام المختارة، من دون ذكر عناوينها، فالأهمّ ـ بالنسبة إلى منظّمي العرض المعلّق أو المؤجّل، أو المُلغى نهائيًا ربما ـ أنّ الأفلام المنوي عرضها "ممنوعة من العرض" في زمن ما قبل "17 أكتوبر"، بسبب سلطة الرقابة، المستمدّة من سلطات الطوائف والقوى السياسية، المتفاهمة على إعمال مزيد من الفساد والنهب في البلد، وهي السلطات نفسها التي ينتفض اللبنانيون عليها، بسبب فسادها ووقاحة لغتها مع الناس.
أيّ أنّ الناشطين يرغبون في إدراج بندٍ سينمائيّ في نضالهم اليومي، ينعكس في تقديم أفلام يمنعها "النظام اللبناني" المتحكّم بالبلد والناس منذ سنين طويلة، لأسبابٍ كثيرة. فالمنع يرتكز على مسائل متعلّقة بالذاكرة وملفات الحرب الأهلية، الملتبسة نهايتها، والسلم الهشّ والناقص، والعلاقات اللبنانية، وغيرها. كأنّ عرض "أفلام ممنوعة" لحظة المواجهة الميدانية السلميّة للبنانيين كثيرين ضد سلطةٍ، تنهش أجسادهم وأرواحهم وأرزاقهم، يعكس انفتاح الثورة على المسائل كلّها، المتساوية في أهميّتها بالنسبة إليهم.
رغم هذا، تبوء المحاولتان بالفشل، فنبض الشارع يبقى الأهمّ، ورفده بنقاشات عملية وقانونية وآنيّة، يقوم بها محامون ومتخصّصون، يبقى الأهمّ أيضًا. أما السينما ـ وإنْ يكن عرض أفلامٍ قليلة منها مُناسبًا، بشكلٍ أو بآخر، في ظلّ الغليان نفسه ـ فمدعوة إلى مواكبة النبض واللحظة والغليان والتفاصيل والأشكال السلمية للانتفاضة، بتوثيقها والتقاطها لحظة حدوثها على الأقلّ، بانتظار نتاجاتها المقبلة لاحقًا، التي يُتوقّع أن تتنوّع أشكالها وأنماط اشتغالاتها وتأمّلاتها.