كلّ شيء يبدو بحجم النملة من هناك، ضئيلاً كذرّة غبار، يبتسم ابتسامة ماكرة حينما يدرك بصرُه عمدة البلدة المتبختر أبداً.
- كم يبدو تافهاً من هنا هذا المتغطرس! يكفي أن أحرّر زفيري فيتطاير في الهواء. يا للسخافة!
يجيل بنظره ناحية البيت فيلمح أباه الغضوب وقد تحوّل إلى نقطة سوداء بحجم فتحة الأنف، فيقبض عليه بيده ويسحقه: ليس بمتناولك الغضب الآن يا أبي.
ويقهقه انتصاراً.
كان قد درج في الأيام الماضية على تسلّق الجبال المحيطة في البلدة هرباً من عالمه الممل، وبحثاً عن شيء جديد، فاكتشف متعة مراقبة قومه من هذا الارتفاع وأصبحت عادة يومية لديه.
لم يدرك أنه في مقابل التعمّق في تلك اللعبة، ومع كل تلك الأشياء التي تتضاءل من حوله، كان هناك شيء ينمو داخله ويتضخّم فيزيده تمرّداً.
ارتفع فوق مخاوفه، تخلّص من كل كوابيسه التي تحوي أبواباً عملاقة تسحقه وأشجاراً ضخمة تلاحقه وأقداماً وسخة تدوسه.
إلا أن أكثر ما كان يُدغدغ قلبه بشكل خاص سموُّه فوق نواهي أمه العجوز التي كان يلاحقه صوتها أينما حل، تلك اللاءات التي لا تنضب؛ لا تأكل من هذا، لا تشرب من ذاك، لا تتسلّق الأشجار، لا تتجاوز السور، لا تحرّك يديك على هذه النحو، لا ترفع صوتك لا.. لا.
يصرخ فيردّ له الجبل صوته، يصرخ أعلى فيجاريه الجبل في لعبته، يغمره الفرح لفكرة أنه أضاع صوت أمه في الطريق وأنه لا يسمع إلا صوتاً واحداً مصدره حنجرته هو.
حرّره الجبل من الحدود، حرّره من الأقنعة، الجبل كشف له أن الجميع متساوون من هنا.
ما إن يُرخي الليل سدوله، يغادر الجبل و يعود في الصباح.
أضحت تعذّبه ملاقاة الناس في أحجامهم الطبيعية، ولم يعد يطيق الانتظار ليعود إلى الجبل فيراهم كقطيع غنم لا يتميز أحدهم عن الآخر في شيء، فيستلقي على ظهره ضاحكاً من غبطة هذا المشهد.
لم يعد يطيق السهل، لم يعد يقوى على رتابته وهوائه لا ليلاً ولا نهاراً، غادره إلى الأبد. يقسم بعضهم أنهم أدركوه في وقت لاحق وقد تحوّل طيراً، ينفي آخرون ذلك قائلين إنه لقي حتفه إثر انزلاقه عن سفح جبل حاد.
لا أدري أين تكمن الحقيقة، لكني سأفضل رواية الطير دوماً.
* كاتبة من فلسطين
اقرأ أيضاً: عطلتي الصيفية