09 يونيو 2017
إحياء طريق الحرير.. الصين والعالم الإسلامي
أكتب هذه المقالة من مدينة أورومتشي الصينية، عاصمة إقليم تشينجيانغ في شمال غرب الصين، حيث أشارك في برنامج صيني لتنظيم رحلات للمثقفين والكتاب والمشاهير، للسير في طريق الحرير، كما كان يسير عليه من قبل دعاة وعلماء وتجار ورحالة، مثل ابن بطوطة، وماركو بولو، وشيان تسونع. وقد أطلق المستكشف الألماني، البارون فرديناند فون ريشتهوفن، في القرن التاسع عشر اسم "طريق الحرير/ Die Seidenstrass" على الطريق الذي يربط قارتي آسيا وأفريقيا، لكن البيزنطيين أطلقوا اسماً مشابهاً على الطريق نفسه قبل مئات السنين، فقد ظلت الصين، حتى القرن السادس الميلادي، تحتفظ بسرّ إنتاج الحرير، وظلت أكثر من ألفي سنة المصدر الوحيد للحرير. وفي المقابل، كانت الصين تستورد من آسيا الوسطى الزجاح والخيول وغيرها من السلع، .. وهكذا، ظلت طريق الحرير ممتدة أكثر من خمسة آلاف ميل، عبر آسيا الوسطى وإيران والشرق الأوسط وتركيا وأوروبا.
كان طريق الحرير أحد أعظم الطرق التجارية في العالم، وأكثرها أهميةً لتبادل الأفكار، فمن خلاله انتقلت الكتابة والزراعة والنسيج والفروسية. وكان معبراً لانتشار الإسلام والبوذية، وبنسبة أقل المسيحية والزرادشتية والمانوية واليهودية والمزدكية والكونفوشية والتاوية، وسار عليها، على مدى آلاف السنين، ملوك وأنبياء ودعاة ورحالة وفنانون ومتصوفون وفرسان وحرفيون، وبالطبع جيوش وقوافل تجارية.
تقول الصحافية والمؤرخة فرياستارك (1893 – 1993) "ليس هناك نهر من ماء، يمكن مقارنته بهذا النهر الدائم من القوافل الذي حمل نصف تاريخ العالم من مرحلةٍ إلى أخرى، ومن قفار إلى قفار، ومن إقليم إلى إقليم بقوة البشر الضئيلة".
تُبدي الصين اهتماماً كبيراً بالمدن والقرى الممتدة في طريق الحرير التاريخي، وهي تشكل مقاطعة شينجيانع الصينية، والتي تبلغ مساحتها 1.6 مليون كيلومتر مربع، وينتمي غالبية سكانها إلى المسلمين من الإيغور بشكل رئيسي، ثم الكازاخ والقزق والمغول والأوزبك. وتتقدّم المدن والبلدات وتطور حياتها ومستوى الدخل فيها، كما تقوم فيها اليوم شبكةٌ واسعةٌ ومتقدمة من المصانع والشركات والأسواق والمساكن والفنادق والجامعات والمطارات والمدارس والمستشفيات والشوارع الواسعة والجسور والأنفاق وسكة الحديد التي تسير قطارات بسرعة عالية.
وتؤسس الصين بذلك لقيام شبكة عالمية من التجارة والسياحة في دول طريق الحرير ومناطقه، وتحويل طريق الحرير إلى ما يشبه نظاماً اقليمياً دولياً قائماً على الصداقة والتعاون والتجارة والتبادل الثقافي والسياحي بين دول حزام طريق الحرير. وفي ذلك، تنشأ شبكة اتصالات نقل بحري وبري، تربط القارات الثلاث، آسيا وأفريقيا وأوروبا، ثم تتشكل حولها منظومة من المراكز التجارية والثقافية واتفاقيات للتعاون التجاري والثقافي، كما التعاون التجاري والزراعي، وفي الصيد ومواجهة التلوث وحماية البيئة، وضمان أمن الممرات الدولية وسلامتها، كما تسعى الدول الواقعة على خط طريق الحرير في تعزيز التعاون الجمركي، وتبادل المعلومات والاعتراف المتبادل بالمراقبة، والمساعدة في إنفاذ القانون، كما التعاون في المواصفات والمقاييس والحجر الصحي، وتوسعة الاستثمارات وتسهيلها.
تشكلت الطرق، ومنها طريق الحرير بالطبع، حول التجارة، والتي بدأت بالمقايضة بين الناس والفئات والبلاد. وفي آسيا الوسطى والصين، كان البدو، في ترحالهم وهجرتهم المنتظمة على المدن والقرى، يتبادلون مع أهل المدن والمزارعين المنتوجات والسلع، فكانوا يحملون ما يستخرجونه من الصحارى والسهول التي يهيمنون عليها النحاس والقصدير والفيروز والذهب والفراء والصوف والجلود. وبتطور الموارد والأعمال والحضارة، كانت التجارة نفسها تتطور، وتبع ذلك تطور الطرق والقوافل التجارية، التزويد والمحطات والأمن والحماية والبريد والصناعات والحرف المرتبطة بها.
وتتضمن قوانين حمورابي الشهيرة، قبل الميلاد بألفي سنة، فصولاً متعلقة بتنظيم التجارة، ما يشير إلى أنها وصلت إلى مرحلةٍ حضاريةٍ متقدمةٍ، وأنها بدأت تشكل جزءاً أساسياً من الحياة والموارد والإدارة والقضاء. وتطورت المهن والصناعات والحرف، صناعة العجلات والعربات والسلاح والحدادة والنجارة والسروج، .. وظهرت دول وإمبراطوريات بسطت هيمنتها على أجزاء واسعة من العالم، الآشوريون والصينيون والفرس والرومان، ثم العرب والمسلمون والمغول...
وبعد التجارة والغزو، صار طريق الحرير مجالاً للكتاب والعلماء والتلاميذ والموسيقيين والحرفيين والدعاة الذين كانوا يسافرون لأجل العمل أو العلم أو الرسالة أو الثروة أو الشهرة، .. وبدأت مملكة الصين، في أوج قوتها، تستكشف العالم المحيط بها في القرن الأول قبل الميلاد، وسعى ملوكها في الحصول على تقنيات الدول المحيطة ومواردها، من الخيول والنسيج. وكانت طريق الحرير في تلك المرحلة مسرحاً لسلسلة متعدّدة ومختلفة من الحروب والتجارة والتعاون والتنافس، وتواصلت الصين مع الإسكندرية والبتراء، وبدأ يجري تبادل معرفي وحرفي بين المجتمعات والدول. وكان الحرير الصيني تلك السلعة الغالية النادرة التي تحتكرها الصين محور التجارة والعلاقات والتبادل.
كان الحرير صدمةً للرومان، وفي عام 53 ق.م ارتبك الرومان أمام الرايات الحريرية المصبوغة بالألوان الزاهية في معركتهم مع البارثيين، وتعرّضوا لهزيمة شديدة، ثم أقبل الرومان على الحرير، وبهرت نساؤهم بهذا النسيج الشفاف المدهش الذي يجعل النساء كاسياتٍ عاريات. وصار هذا القماش يتدفق إلى غرب آسيا، تحت وطأة طلبٍ شديد عليه، وكان هذا الحرير يصبغ بالأرجوان في المدن الفنينيقية، ويوشّى بخيوط الذهب والفضة، فتتضاعف قيمته أضعافاً كثيرة، وصارت شرائطه القرمزية والأرجوانية تميّز النبلاء وأصحاب المراتب الرفيعة في البلاط الروماني.
وصارت طريق الحرير معبراً لتجارة التوابل، والتي تفوقت بسرعة على الحرير، وصارت هي المادة الأكثر أهمية وانتشاراً للتجارة بين الشرق والغرب. وكان الجنود والتجار هم معظم المسافرين على طريق الحرير. ولكن، بدأ صنف جديد من المسافرين بالظهور، وهم الدعاة والمبشرون. وعندما ورث المسلمون الحضارة الإنسانية، نقلوا حضارتهم عبر طريق الحرير وتفاعلوا مع الشرق تفاعلاً كبيراً حوّل طريق الحرير إلى مسرح عظيم للتجارة والمعرفة والدعوة.
إحياء طريق الحرير مبادرة صينية رائدة وعملاقة، وتبذل الصين، اليوم، لأجل إنجاح هذه المبادرة جهوداً كبيرة لتأهيل المدن والمرافق، وللانفتاح على العالم الإسلامي وبناء مؤسسات وبرامج للتعاون والعمل المشترك، فهل ستكون طريق الحرير رابطةً جديدةً لأكثر من 50 دولة، تنشئ حول الثقة والتعاون والأمان منظوماتٍ للتجارة والنمو الاقتصادي والازدهار؟
كان طريق الحرير أحد أعظم الطرق التجارية في العالم، وأكثرها أهميةً لتبادل الأفكار، فمن خلاله انتقلت الكتابة والزراعة والنسيج والفروسية. وكان معبراً لانتشار الإسلام والبوذية، وبنسبة أقل المسيحية والزرادشتية والمانوية واليهودية والمزدكية والكونفوشية والتاوية، وسار عليها، على مدى آلاف السنين، ملوك وأنبياء ودعاة ورحالة وفنانون ومتصوفون وفرسان وحرفيون، وبالطبع جيوش وقوافل تجارية.
تقول الصحافية والمؤرخة فرياستارك (1893 – 1993) "ليس هناك نهر من ماء، يمكن مقارنته بهذا النهر الدائم من القوافل الذي حمل نصف تاريخ العالم من مرحلةٍ إلى أخرى، ومن قفار إلى قفار، ومن إقليم إلى إقليم بقوة البشر الضئيلة".
تُبدي الصين اهتماماً كبيراً بالمدن والقرى الممتدة في طريق الحرير التاريخي، وهي تشكل مقاطعة شينجيانع الصينية، والتي تبلغ مساحتها 1.6 مليون كيلومتر مربع، وينتمي غالبية سكانها إلى المسلمين من الإيغور بشكل رئيسي، ثم الكازاخ والقزق والمغول والأوزبك. وتتقدّم المدن والبلدات وتطور حياتها ومستوى الدخل فيها، كما تقوم فيها اليوم شبكةٌ واسعةٌ ومتقدمة من المصانع والشركات والأسواق والمساكن والفنادق والجامعات والمطارات والمدارس والمستشفيات والشوارع الواسعة والجسور والأنفاق وسكة الحديد التي تسير قطارات بسرعة عالية.
وتؤسس الصين بذلك لقيام شبكة عالمية من التجارة والسياحة في دول طريق الحرير ومناطقه، وتحويل طريق الحرير إلى ما يشبه نظاماً اقليمياً دولياً قائماً على الصداقة والتعاون والتجارة والتبادل الثقافي والسياحي بين دول حزام طريق الحرير. وفي ذلك، تنشأ شبكة اتصالات نقل بحري وبري، تربط القارات الثلاث، آسيا وأفريقيا وأوروبا، ثم تتشكل حولها منظومة من المراكز التجارية والثقافية واتفاقيات للتعاون التجاري والثقافي، كما التعاون التجاري والزراعي، وفي الصيد ومواجهة التلوث وحماية البيئة، وضمان أمن الممرات الدولية وسلامتها، كما تسعى الدول الواقعة على خط طريق الحرير في تعزيز التعاون الجمركي، وتبادل المعلومات والاعتراف المتبادل بالمراقبة، والمساعدة في إنفاذ القانون، كما التعاون في المواصفات والمقاييس والحجر الصحي، وتوسعة الاستثمارات وتسهيلها.
تشكلت الطرق، ومنها طريق الحرير بالطبع، حول التجارة، والتي بدأت بالمقايضة بين الناس والفئات والبلاد. وفي آسيا الوسطى والصين، كان البدو، في ترحالهم وهجرتهم المنتظمة على المدن والقرى، يتبادلون مع أهل المدن والمزارعين المنتوجات والسلع، فكانوا يحملون ما يستخرجونه من الصحارى والسهول التي يهيمنون عليها النحاس والقصدير والفيروز والذهب والفراء والصوف والجلود. وبتطور الموارد والأعمال والحضارة، كانت التجارة نفسها تتطور، وتبع ذلك تطور الطرق والقوافل التجارية، التزويد والمحطات والأمن والحماية والبريد والصناعات والحرف المرتبطة بها.
وتتضمن قوانين حمورابي الشهيرة، قبل الميلاد بألفي سنة، فصولاً متعلقة بتنظيم التجارة، ما يشير إلى أنها وصلت إلى مرحلةٍ حضاريةٍ متقدمةٍ، وأنها بدأت تشكل جزءاً أساسياً من الحياة والموارد والإدارة والقضاء. وتطورت المهن والصناعات والحرف، صناعة العجلات والعربات والسلاح والحدادة والنجارة والسروج، .. وظهرت دول وإمبراطوريات بسطت هيمنتها على أجزاء واسعة من العالم، الآشوريون والصينيون والفرس والرومان، ثم العرب والمسلمون والمغول...
وبعد التجارة والغزو، صار طريق الحرير مجالاً للكتاب والعلماء والتلاميذ والموسيقيين والحرفيين والدعاة الذين كانوا يسافرون لأجل العمل أو العلم أو الرسالة أو الثروة أو الشهرة، .. وبدأت مملكة الصين، في أوج قوتها، تستكشف العالم المحيط بها في القرن الأول قبل الميلاد، وسعى ملوكها في الحصول على تقنيات الدول المحيطة ومواردها، من الخيول والنسيج. وكانت طريق الحرير في تلك المرحلة مسرحاً لسلسلة متعدّدة ومختلفة من الحروب والتجارة والتعاون والتنافس، وتواصلت الصين مع الإسكندرية والبتراء، وبدأ يجري تبادل معرفي وحرفي بين المجتمعات والدول. وكان الحرير الصيني تلك السلعة الغالية النادرة التي تحتكرها الصين محور التجارة والعلاقات والتبادل.
كان الحرير صدمةً للرومان، وفي عام 53 ق.م ارتبك الرومان أمام الرايات الحريرية المصبوغة بالألوان الزاهية في معركتهم مع البارثيين، وتعرّضوا لهزيمة شديدة، ثم أقبل الرومان على الحرير، وبهرت نساؤهم بهذا النسيج الشفاف المدهش الذي يجعل النساء كاسياتٍ عاريات. وصار هذا القماش يتدفق إلى غرب آسيا، تحت وطأة طلبٍ شديد عليه، وكان هذا الحرير يصبغ بالأرجوان في المدن الفنينيقية، ويوشّى بخيوط الذهب والفضة، فتتضاعف قيمته أضعافاً كثيرة، وصارت شرائطه القرمزية والأرجوانية تميّز النبلاء وأصحاب المراتب الرفيعة في البلاط الروماني.
وصارت طريق الحرير معبراً لتجارة التوابل، والتي تفوقت بسرعة على الحرير، وصارت هي المادة الأكثر أهمية وانتشاراً للتجارة بين الشرق والغرب. وكان الجنود والتجار هم معظم المسافرين على طريق الحرير. ولكن، بدأ صنف جديد من المسافرين بالظهور، وهم الدعاة والمبشرون. وعندما ورث المسلمون الحضارة الإنسانية، نقلوا حضارتهم عبر طريق الحرير وتفاعلوا مع الشرق تفاعلاً كبيراً حوّل طريق الحرير إلى مسرح عظيم للتجارة والمعرفة والدعوة.
إحياء طريق الحرير مبادرة صينية رائدة وعملاقة، وتبذل الصين، اليوم، لأجل إنجاح هذه المبادرة جهوداً كبيرة لتأهيل المدن والمرافق، وللانفتاح على العالم الإسلامي وبناء مؤسسات وبرامج للتعاون والعمل المشترك، فهل ستكون طريق الحرير رابطةً جديدةً لأكثر من 50 دولة، تنشئ حول الثقة والتعاون والأمان منظوماتٍ للتجارة والنمو الاقتصادي والازدهار؟