06 نوفمبر 2024
إسقاط النموذج التركي.. لمصلحة من؟
تتعرّض تركيا، منذ فترة، لضغوط سياسية واقتصادية شديدة، جديدها استهداف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الليرة التركية على خلفية احتجاز القس أندرو برونسون الذي تتّهمه أنقرة بنشاطاتٍ تخلّ بأمنها واستقرارها. لوهلةٍ، قد تبدو هذه الضغوط أنها تستهدف حكومة الرئيس، رجب طيب أردوغان، الذي يثير، منذ فترة، حفيظة الغرب بسياساته التي تبتعد أكثر فأكثر عن حلفاء "الناتو" وتقترب من روسيا، من بين أسباب عديدة أخرى طبعًا. لكن واقع الأمر أن هذه الضغوط قد تؤدي، بقصد أو بغير قصد، إلى تقويض استقرار تركيا، وتهديد نموذجها التنموي وتجربتها الديمقراطية الفتيّة، وهو أمر إذا حصل ستكون له تداعياتٌ كبرى، تمتدّ إلى العالمين، العربي والإسلامي، وربما تطاول العالم أجمع. هذا الكلام لا يبرّره فقط أن تركيا تمثل اليوم ثاني دولة مسلمة بحجم اقتصادها بعد إندونيسيا (ترتيبها 17 على مستوى العالم بناتج إجمالي محلي يبلغ 850 مليار دولار، ويتوقع أن يتجاوز حاجر التريليون دولار بحلول عام 2022)، ولا باعتبارها قوة عسكرية إقليمية كبرى (إذ تملك ثاني أكبر جيش في حلف الناتو بعد الولايات المتحدة)، ولا بثقلها السياسي المعزّز بمساحتها الكبيرة وموقعها الجغرافي الفريد الذي يسمح بإطلالةٍ على أكثر مناطق العالم تفجرًا أو قابلية للانفجار (سواء في الشرق الأوسط، من سورية إلى العراق وإيران، أو في القفقاس، من جورجيا إلى أرمينيا وأذربيجان أو في البلقان)، ولا بثقلها السكاني الكبير نسبيا (ترتيبها 18 على مستوى العالم)، لا بل يتجاوز ذلك كله إلى النموذج السياسي والاقتصادي والتنموي الذي تقدّمه تركيا منذ نحو عقدين، بتحولها إلى أهم تجربة ديمقراطية إسلامية على الإطلاق.
لعقود طويلة، سادت في الغرب مدرسة فكرية تقول بوجود تناقض جوهري بين الإسلام والديمقراطية، وتفصيلها أن الإسلام، دينا وثقافة، غير قابل، وغير قادر، على استيعاب الفكر الليبرالي. ولأنه دين توحيدي، فهو عاجز عن استلهام التعدّدية السياسية والفكرية، دع جانبا مسألة التعدّدية الاجتماعية، ما يجعله في حالة خصومةٍ دائمةٍ وحربٍ قائمةٍ على الحداثة (الغربية) ومظاهرها المختلفة. وقد تسلحت هذه المدرسة برصيدٍ لا ينضب من الأمثلة في العالم الإسلامي، على اختلاف ثقافاته وعرقياته (من العرب والترك إلى الفرس وشعوب الملايو المسلمة). ولم يكن بالإمكان تقديم نموذج واحد مستدام (ديمقراطيا) من العالم الإسلامي لنقض هذه الفرضية. والنتيجة بالتالي أن الاستبداد والأحادية ليستا فقط حالتين طبيعيتين في المجتمعات العربية والإسلامية، بل هما أيضا حتميتان، وينبغي للغرب أن يتعايش معهما، لا بل ويدعمهما، باعتبار أنهما تمثلان حالة تاريخية متوائمة مع روح الإسلام وجوهره.
تمكّنت تركيا، بقيادة حزب العدالة والتنمية، من تقويض أسس هذه المدرسة الفكرية، وتقديم نموذج ديمقراطي ليبرالي إسلامي يواجه تحديات الحكم منذ عام 2002. فالحزب ذو الميول الإسلامية المحافظة وصل إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع، وتمكّن من البقاء فيها بسبب برامجه الاجتماعية، وسياساته الخدمية، ونجاحاته الاقتصادية التي حوّلت تركيا إلى أحد أهم الاقتصادات الإسلامية المنتجة (نقيض الريعية). وعلى الرغم من أن التجربة الاقتصادية التركية تتعرّض منذ فترة لتحديات كبيرة، إلا أن هذا، وبرأي معظم الاقتصاديين، لا يعدو كونه جزءا من دورة اقتصادية طبيعية مرتبطة ببنية الاقتصادات الرأسمالية (وتركيا منها). وعلى الرغم من الانتقادات التي توجه إلى الرئيس أردوغان من زاوية ميله إلى تركيز سلطاتٍ كثيرة في يديه، خصوصا بعد تحويل النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، إلا أن أحدا لا يستطيع مع ذلك إنكار أن الرجل موجود في السلطة بتفويضٍ شعبي، مهما كان هامشه الأكثري صغيرا (52% بحسب انتخابات يونيو/ حزيران الماضي).
تقويض التجربة التركية، من بوابة استهداف أردوغان، أو حكومة "العدالة والتنمية"، هي سياسة قصيرة النظر، ونتائجها خطيرة، لأن فشل النموذج الديمقراطي الليبرالي الذي تقدّمه تركيا (على علاته وعثراته) يؤدّي إلى نتيجتين حتميتين، لا تخدمان مصالح المنطقة والغرب: الأولى، تصعيد النموذج السلطوي وتعزيز قوى معسكره العالمي الذي تقوده اليوم روسيا والصين. الثانية، تقوية النموذج النقيض لحزب العدالة والتنمية في الوسط الإسلامي، وهو نموذج "داعش" الذي ينتعش في بيئات الفشل الديمقراطي، ويشتدّ ساعده في غياب الفعل السياسي، التهميش والإقصاء والفشل التنموي، وكلها من سمات الاستبداد.
لعقود طويلة، سادت في الغرب مدرسة فكرية تقول بوجود تناقض جوهري بين الإسلام والديمقراطية، وتفصيلها أن الإسلام، دينا وثقافة، غير قابل، وغير قادر، على استيعاب الفكر الليبرالي. ولأنه دين توحيدي، فهو عاجز عن استلهام التعدّدية السياسية والفكرية، دع جانبا مسألة التعدّدية الاجتماعية، ما يجعله في حالة خصومةٍ دائمةٍ وحربٍ قائمةٍ على الحداثة (الغربية) ومظاهرها المختلفة. وقد تسلحت هذه المدرسة برصيدٍ لا ينضب من الأمثلة في العالم الإسلامي، على اختلاف ثقافاته وعرقياته (من العرب والترك إلى الفرس وشعوب الملايو المسلمة). ولم يكن بالإمكان تقديم نموذج واحد مستدام (ديمقراطيا) من العالم الإسلامي لنقض هذه الفرضية. والنتيجة بالتالي أن الاستبداد والأحادية ليستا فقط حالتين طبيعيتين في المجتمعات العربية والإسلامية، بل هما أيضا حتميتان، وينبغي للغرب أن يتعايش معهما، لا بل ويدعمهما، باعتبار أنهما تمثلان حالة تاريخية متوائمة مع روح الإسلام وجوهره.
تمكّنت تركيا، بقيادة حزب العدالة والتنمية، من تقويض أسس هذه المدرسة الفكرية، وتقديم نموذج ديمقراطي ليبرالي إسلامي يواجه تحديات الحكم منذ عام 2002. فالحزب ذو الميول الإسلامية المحافظة وصل إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع، وتمكّن من البقاء فيها بسبب برامجه الاجتماعية، وسياساته الخدمية، ونجاحاته الاقتصادية التي حوّلت تركيا إلى أحد أهم الاقتصادات الإسلامية المنتجة (نقيض الريعية). وعلى الرغم من أن التجربة الاقتصادية التركية تتعرّض منذ فترة لتحديات كبيرة، إلا أن هذا، وبرأي معظم الاقتصاديين، لا يعدو كونه جزءا من دورة اقتصادية طبيعية مرتبطة ببنية الاقتصادات الرأسمالية (وتركيا منها). وعلى الرغم من الانتقادات التي توجه إلى الرئيس أردوغان من زاوية ميله إلى تركيز سلطاتٍ كثيرة في يديه، خصوصا بعد تحويل النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، إلا أن أحدا لا يستطيع مع ذلك إنكار أن الرجل موجود في السلطة بتفويضٍ شعبي، مهما كان هامشه الأكثري صغيرا (52% بحسب انتخابات يونيو/ حزيران الماضي).
تقويض التجربة التركية، من بوابة استهداف أردوغان، أو حكومة "العدالة والتنمية"، هي سياسة قصيرة النظر، ونتائجها خطيرة، لأن فشل النموذج الديمقراطي الليبرالي الذي تقدّمه تركيا (على علاته وعثراته) يؤدّي إلى نتيجتين حتميتين، لا تخدمان مصالح المنطقة والغرب: الأولى، تصعيد النموذج السلطوي وتعزيز قوى معسكره العالمي الذي تقوده اليوم روسيا والصين. الثانية، تقوية النموذج النقيض لحزب العدالة والتنمية في الوسط الإسلامي، وهو نموذج "داعش" الذي ينتعش في بيئات الفشل الديمقراطي، ويشتدّ ساعده في غياب الفعل السياسي، التهميش والإقصاء والفشل التنموي، وكلها من سمات الاستبداد.