في الحلقة الرابعة من سلسلة إعادة تموضع الإخوان المسلمين، نسلط الضوء على الأسئلة الملحة التي ولدت من رحم مراحل تغير الجماعة، لاسيما مع انسداد الأفق السياسي والاجتماعي في مصر، فضلاً عن مشهد العنف المتزايد، سواء من جانب السلطة تجاه معارضيها أو من خلال حركات إرهابية تواجه الدولة.
يمكن القول إن أبرز تساؤل يدور في خلد المهتمين والباحثين والمراقبين، هل سيمارس الإخوان المسلمون عنفاً تدميرياً تجاه الدولة المصرية؟ إذ يعتبر هذا السؤال، الأهم بالنسبة لمن يعرف حجم جماعة الإخوان في مصر ومدى تأثيرها في أوساط اجتماعية كثيرة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو سؤال يأتي على خلفية حملات التنكيل التي تطاول الجماعة منذ عامين ووصلت إلى حد اتهام عبد الفتاح السيسي بشكل ضمني لقيادات الجماعة ومرسي في السجن بأنهم من يعطون أوامر عمليات القتل والتفجيرات التي شهدتها البلاد الأسبوعين الأخيرين، وهو ما تُرجم إلى عملية تصفية مباشرة تمت بحق 9 من قيادات الإخوان، فردت الجماعة ببيان حمل عبارة ملفتة تقول "إن عملية الاغتيال بحق قياداتها تحوّلٌ له ما بعده، ويؤسس به المجرم عبدالفتاح السيسي لمرحلة جديدة لا يمكن معها السيطرة على غضب القطاعات المظلومة المقهورة التي لن تقبل أن تموت في بيوتها وسط أهلها".
فضلاً عن أحكام الإعدام التي صدرت بحق مرسي وقيادات الجماعة، والتي واجهتها بتصريحات وبيانات متعددة من بينها نداء الكنانة الملفت، الذي وقّعه 150 داعية وعالماً إسلامياً، وتحدث عن الواجب الشرعي لمقاومة الظلم وحق الدفاع عن النفس، والقصاص، واتهم إعلاميين وقضاة وسياسيين بالتحريض على القتل. يُضاف إلى ذلك تصعيد السلطة من حدة حملة الشيطنة للجماعة وللمتعاطفين معها، بما ينذر بوجود حملات تصفية ممنهجة ضد الجماعة.
جميع ما سبق مع غيره من الشواهد، دفعت لتوقع كثيرين، بتورط الجماعة في هذا النوع من العف، إلا أن ثمة 5 أسباب جوهرية تحول دون انزلاق الجماعة لفكرة "العنف التدميري" أو التحول لجماعة مسلحة، على المدى القريب، أو المتوسط أو تحويل الأمر لعشرية سوداء أو استنساخ تجربة الجماعات الجهادية في التسعينات:
الأول: طبيعة الجماعة ومناهجها وتربية وتركيبة أفرادها التي تتشكل أغلبها من المهنيين وأبناء الطبقة الوسطى، المنخرطة في جسم المجتمع بطريقة يصعب فيها فصلهم عنه كلياً، سواء في الارتباطات الحياتية أو الجغرافية، وهو الأمر الذي سهل تعاطف قطاع من المجتمع معهم، بعد فترة من إزاحتهم من الحكم، حتى لو كانوا معترضين على خيارت الإخوان، يضاف إلى ذلك تركيبة الجماعة القائمة على الفكر الإصلاحي وليس الثوري وهو الأمر الذي يحتاج إلى وقت طويل جداً لتغييره، حتى مع وجود إرهاصات لهذه الرغبة في التحول، لكن جسد الجماعة الكبير وتراثها الضخم في مناهضة فكرة "التثوير" يحول دون ذلك قريباً.
الثاني: حجم التضامن الاجتماعي الداخلي بين أفراد الجماعة والمتعاطفين معها على مستوى الاقتطاع من رأس المال بالمعنى المادي، أو رأس المال الاجتماعي بالمعنى التطوعي عن طريق الخبرات في مجالات كالصحة والتعليم والمحاماة وغيرها، بما يتيح للعضو سواء كان قيادياً أو من القواعد توفير الحد الأدنى من احتياجات الحياة التي تحفظ له كرامته اجتماعياً وتغنيه عن الحاجة، وهو ما قد يجعله يتحمل أوضاع المطاردة أو التنكيل خاصة إذا صحبها خطاب معنوي عن الصبر في المحن والأزمات، ومن ثم لا يصل إلى مرحلة الانفجار أو اليأس التام من الحياة.
الثالث: وجود كتلة صلبة وكبيرة من النساء، حافظت على كثير من أعمال أزواجهن أو تحركت على الأرض كقوة فاعلة في الحفاظ على زخم التظاهر بما يرفع من الروح المعنوية لأعضاء الجماعة، الأمر الذي عرضهن لبطش غير مسبوق في تاريخهم من قبل الأمن وصل حد الاعتقال والتحرش والقتل، بحسب اتهامات الجماعة المتوالية، الأمر الذي دفع التنظيم بمنحهن أدواراً إدارية بسيطة أو حركية محدودة خشية تزايد حدة التنكيل وتوسعه، فضلاً من الخشية من تصاعد التنكيل بشكل ممنهج للنساء والتعامل معهن بمنطق "الرهائن" حال انزلقت الجماعة بشكل مؤسسي نحو العنف.
الرابع: الخشية من الانجرار لعنف مجتمعي أوسع يُحمّل الإخوان مسؤولية الدماء، إذا قرر النظام اتباع سياسة الأرض المحروقة، إذ أن جزءاً كبيراً من رهان الجماعة في مواجهة النظام الحالي هو تحميله المسؤولية الأخلاقية عن العنف والقتل وتبني خطاب أنه المتسبب فيه، وبالتالي يخشى كثيرون منهم أن يتحملوا هذه المسؤولية إذا تصاعد الأمر وبات العنف مجتمعياً-مجتمعياً، والحديث الإخواني مازال مستقراً عند مفاهيم "القصاص" أو الحديث عن أفراد بعينهم من قوى الأمن.
الخامس: الأزمة التنظيمية الأخيرة كشفت أن ثمة كوابح تنظيمية من داخل الجماعة تراقب سقف التصعيد الذي يصل إليه الشباب، وتشتبك معه حول مفهوم "الرؤية الثورية" ومتطلباتها وأدواتها، وهو ما ظهر جلياً في بيانات المتحدث باسم الجماعة محمد منتصر، إذا أكد في بيان صدر في 25 يونيو/حزيران الماضي "إننا ندعو كافة شباب مصر المخلصين ألا ينساقوا إلى ما تدعوهم إليه سلطة العسكر بالانزلاق في فخ العنف الذي تخطط له أجهزته وأذرعه بكل ما أوتيت من قوة ونحن نرفضه تماماً". فيما قال في تصريحه على مقتل النائب العام المصري "وتؤكد جماعة الإخوان أن القتل مرفوض، وأن الواقع المصري الحالي تجاوز الجميع"، وهو مؤشر على أن حدة تصريحات المتحدث ليست ذات منحى تصعيدي دائم والإشارة بلغة واضحة لرفض القتل أو فخ العنف التدميري، حتى في ضوء استخدام عبارات تصعيدية في أوقات أخرى. وظهر أيضاً في التراجع الملفت لما يسمى بالعمليات النوعية التي كانت تستهدف تعطيل المنشآت أو الطرق أو الإرباك لمنشآت اقتصادية.
هل من سبيل إلى مصالحة مع النظام؟
منذ الإطاحة بالرئيس محمد مرسي، ورهانات كثيرة يطلقها باحثون ونشطاء في اتجاه أن جماعة الإخوان لابد وأنها ستنتهي إلى تفاهم من نوع ما مع النظام في مصر، إما تحت ضغط النظام أو برغبة من الجماعة في العودة للساحة السياسية، مستدلين على ذلك بجزء من تاريخ جماعة الإخوان في مصر سواء في التفاهمات بينها وبين الأنظمة التي تواجدت في عهدها بدءاً من العصر الملكي وحتى عصر مبارك، على الرغم من السجن والاعتقال والتضييق الذي طاولها خلال كل هذه العقود، وعودة الإخوان المسلمين إلى العمل السياسي في ظل عهد السادات بوجه جديد، رغم كون السادات جزءاً من النظام الذي نكل بالإخوان، وعدم محاكمة أي من رموز النظام الناصري على ما قام به من اعتقالات أو سجن أو تعذيب، كدليل على قابلية الجماعة في مصر لتكرار الأمر.
إلا أن هذه الفرضية لم تتحقق على مدى عامين ولا يوجد ثمة دليل في الأفق على تحققها، فحتى واقعة إخلاء سبيل 70 فرداً في الإسكندرية من أعضاء الجماعة أو أفراد محبوسين على ذمة القضايا نهاية إبريل/نيسان الماضي، أو العفو الرئاسي أول رمضان عن 165 شخصاً أغلبهم كان محبوساً على ذمة قضايا إخوانية، لا يؤكد هذه الفرضية.
ذلك أن الوضع بات مختلفاً الآن، إذ أصبح عملياً "هرم القيادة مقلوباً" داخل الجماعة، فالشارع والشباب والحراك الموجود على الأرض سواء في شكله التقليدي أو شكله النوعي، يؤثر في قيادات الخارج، أو يدفعها لاتخاذ مواقف بعينها، حتى لو كانت مخالفة لقناعات كثير منها، فوفقاً لمصادر متواترة وقريبة الصلة من قيادات جماعة الإخوان في الخارج تحدث إليها المحرر فإن عدداً من الكوادر والقيادات في الخارج يرى أن خطاب عودة مرسي يقع في مساحة الخطاب الإعلامي وليس التفاوضي، يضاف إلى ذلك أن خطاب القصاص وحجم الدماء يجعل من شبه المستحيل القبول بالعودة إلى مربع السياسة فوق كل هذه الجثث، وإلا سيعني هذا تفككاً حقيقياً للجماعة وتحولاً لقسم كبير من الشباب، نحو جماعات العنف بشكل منظم، وهو ما تخشاه جهات عدة على رأسها قيادات الجماعة التي تخشى خسارة رأس مالها من الشباب.
أما من جهة النظام، فالظاهر والثابت من اليوم الأول، رغبته في حشر الجماعة بالزاوية دون أي قدر من المرونة، وهو ما أثبته تحقيق جريدة النيويورك تايمز الأميركية الذي نشر بعد فض رابعة في أغسطس/آب 2013 وتناول تفاصيل مفاوضات ما قبل الفض بين النظام والجيش وبين قوى دولية، بما يعني أن النظام نفسه لا يرغب في الحوار أو المصالحة، وهو ما أكده بعد ذلك القبض على محمد علي بشر في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، على الرغم من كون بشر كان همزة الوصل لأي مناقشات أو رؤية تفاوض مع النظام، وأخيراً القبض على محمد وهدان القائم بأعمال المرشد العام، وأعضاء مكتب الإرشاد، انتهاء بحملة الشيطنة والاعتقالات والتصفية بالقتل التي توجت حملة الهستريا التي أطلقها إعلام النظام.
يمكن القول إن جميع المعطيات السابقة، تظهر أنه لا حل سياسياً نابعاً من مصالحة بين الطرفين برضاهما، ويبدو أن القوى الخارجية حتى الآن ليست لديها القدرة لإجبار أحدهما على التراجع، على الرغم مما يشاع كل فترة عن وجود وساطات ومصالحات، وآخرها ما نسب إلى راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة الإسلامي التونسي، من تقديم فكرة مصالحة لملك السعودية سلمان بن عبد العزيز، لإيجاد تسوية بين النظام والإخوان، وكذلك التلميحات التي خرجت من أشخاص قريبين من دوائر مؤسسة الحكم في السعودية كالكاتب جمال خاشفجي وعضو مجلس الشورى السعودي السابق أحمد التويجري، اللذين تحدثا عن أن جماعة الإخوان ليست إرهابية ويجب التعامل معها بشروط، انتهاء بحديث يوسف ندا، مفوض العلاقات الدولية لجماعة الإخوان سابقاً، والذي بدا كمبادرة من أطراف لم يسمها، ووجّه لكل الشرفاء طالباّ إياهم بالتنازل وهو ما قوبل بالرفض من أعضاء وقيادات الجماعة.
يمكن القول إن هذه هي المرة الأولى بعد انخراط جماعة الإخوان المسلمين في السياسة، التي تنقطع فيها كل الآفاق السياسية، بين الجماعة وبين النظام حتى في أوج المحاكمات العسكرية في التسعينات وما بعدها.
هل تتقارب الجماعة مع فرقاء المعارضة؟
منذ فض رابعة وكثير من التيارات الشبابية والقوى السياسية التي كانت محسوبة على ثورة يناير، عدلت مواقفها في اتجاه معارضة نظام عبد الفتاح السيسي بشكل متدرج حتى وصل الحال إلى المعارضة التامة، من بعض أفراد في النخب وبعض التيارات السياسية مثل حركة 6 إبريل وحركة الاشتراكيين الثوريين وآخرين، هذا الأمر فتح الباب لدعوات انطلقت من حين لآخر تدعو "لوحدة الصف" و"الاصطفاف" في مواجهة النظام الجديد الذي رأوا فيه أنه يبطش بالكل، إلا أن كل هذه الكلمات الداعية للتقارب لم يكن لها بريق مثل الماضي، في مرحلة ما قبل الاستقطاب السياسي الحاد في نهاية عام 2012، في ظل حالة إلقاء المسؤولية المتبادلة بينهما حول مسؤولية تمكين القوى العسكرية من مقاليد الحكم.
حالة "المكايدة السياسية" بين الطرفين أو الفرقاء، وصلت مبلغاً لا يمكن معه التغافل عن الفجوة التي أحدثتها، فالاعتذارات الهامسة من هذا الطرف أو ذاك ليست أعلى من ضجيج حالة الاصطفاف الهوياتي. لذا فإن فكرة التنسيق أو التعاون بين الإخوان من جانب وبين مناوئي السيسي الآخرين، أمر لا يمكن تصوره في الأفق المنظور خاصة مع الشباب والتيارات التي لا تريد دفع الكلفة التي يدفعها الإخوان في مواجهة النظام من قتل وتعذيب واعتقال، فيما يرى كل طرف أن طريقه مختلف، حتى لو اتفقوا على التعاطف مع المقتولين أو المسجونين أو الرغبة في الإطاحة بالسيسي.
ما هي آليات الضم والتصعيد في حجم الجماعة؟
من بين الأسئلة المهمة التي طرحتها مراحل التغيير، هو الحديث عن حجم الجماعة في ظل حالات الاعتقالات والمطاردة وطرق وآليات التصعيد التنظيمي فيها. الإجابة على هذا السؤال جاءت على لسان كوادر وقيادات داخل مصر وخارجها تحدثت لـ "العربي الجديد"، طالبة عدم الكشف عن أسمائها، موضحة أن "تم تفعيل مسارات للانضمام إلى الحراك المواجه للنظام عبر الحركات الشبابية المختلفة، فيما زادت وتيرة التصعيد الإداري خاصة للشباب مع وجود سيولة إلى حد في التغييرات الإدارية، بينما يظل التصعيد التربوي قليلاً إلى حد ما، هذا فيما تم دمج مستويات العضوية بمعنى أن كل الإخوان (منتظم وعامل ومنتسب) أصبح لا فارق بينهم فى حقوق العضوية، أي أن أي واحد من المستويات السابقة يمكنه شغل موقع ما فى الهيكل الإداري، فيما كان هذا الأمر سابقاً يقصر على الأخوة العاملين.
بالتالي فإنه يمكن القول إن الواقع فرض مرونة أكثر في شروط التصعيد، مثل عدم اشتراط موافقة لجنة التربية أو خضوع العضو للبرنامج التربوي كاملاً، مع إعطاء الأولوية لعوامل مثل الثبات والاستمرار بأنشطة الجماعة وفعالياتها، سواء كانت السياسية المناهضة للانقلاب أو غيرها، لكن الجماعة ما زالت مستمرة على التصنيف القديم الخاص بالمحب ثم المؤيد ثم المنتسب ثم العامل حتى لو لم يشكل فارقاً كبيراً في مسألة التصعيد وتولي بعض المهام الإدارية، وتقتصر أهمية المهام على انتظام الفرد القديم أو الجديد في حضور اجتماعات الأسرة.
في الحلقة الخامسة والأخيرة نحاول استشراف الرؤية المستقبلية للجماعة وسيناريوهات المستقبل المحتملة بالنسبة لها في ضوء ما وصلت إليه وما آلت إليه الأوضاع المحيطة بها.
--------
اقرأ أيضاً:
إعادة تموضع الإخوان المسلمين..أربع مراحل للتغيير ترسم المستقبل
إعادة تموضع الإخوان المسلمين..اللجوء إلى القوة في مواجهة النظام
إعادة تموضع الإخوان المسلمين (3-5).. هيكلة تنظيمية واصطفاف داخلي