31 أكتوبر 2024
إغماضة عين وسكون نفس
إنه الموت.. ينتصر عليّ، مرة أخرى، من دون أن يفاجئني، فيفوز بلذّة الانتصار وأفوز بلذّة تحقق التوقع. وتبقى الحرب مستمرة، معركة تلو معركة، على الرغم من أن النتيجة واحدة دائما.
كنت أريد أن أكتب مقالي لهذا الأسبوع عن الموت الذي تلوح راياته حولي الآن، فتذكّرت أن مقالي الأسبوع الماضي، في هذه المساحة في "العربي الجديد"، كان بعنوان "لم يعد أحد من الموت ليخبرنا الحقيقة". استحضرت فيه روح الشاعر الراحل، محمود درويش، وجداريته عن الموت في ذكرى موته، من دون أن أصل إلى شيء أكثر من الحسرة على شاعرٍ مضى، من دون أن يكمل مشروعه الشعري الفريد، ومن دون أن يكمل ما يريد الكتابة عنه، كما هو واضح في ما تركه وراءه من كتابات ناقصة، وأبيات يتيمة على قيد النشر.
وها أنا الآن محاطةٌ بأخبار موتٍ ثقيل، كان العنوان الأبرز في حياة الكويتيين طوال الأسبوع، ففيه فقدنا الفنان الراحل عبد الحسين عبد الرضا، واكتشفنا أننا معنيون بموته أكثر بكثير مما كنا نظن، ونحن نجلس أمام التلفزيون، مستمتعين بأدائه الكوميدي الرفيع خمسين عامًا أو أكثر بقليل.
فهل أكمل مقالي الجديد عن الموت رثاء للفنان عبد الحسين عبد الرضا الذي سبق لي أن كتبت عنه أكثر من مقال ما بين الموت والحياة؟ أم أبحث عن حياة، أي حياة، لأكتب عنها بعيدا عن أجواء الموت التي أثقلت روحي، وعن أسئلته التي ظلت دائما بلا إجابات، وعن قتامته التي لا يفلح أي ضوء تقترحه الكتابة في إنارتها، وعن الأسماء الكثيرة التي اندرجت في قائمتي الشخصية له؟
بعد رحيل والدتي، رحمها الله، قبل سنوات قليلة، حاولت الكتابة عن ذلك الرحيل الأبدي، ففشلت فشلا ذريعاً يومها. ولم أسجل، في تحضيرات الكتابة، سوى أن الموت قبل موتها بين يدي لم يكن قريباً مني إلى هذا الحد، فقد كان يخصّ الآخرين حولي وحسب، وكنت أناوشه في الكتابة والشعر والأسئلة والبحث كمادة تتعلق بالآخرين. ولهذا كنت أملك من الحرية ما جعلني أنظر إليه تلك النظرة المحايدة إلى حد كبير. أما وقد خطف من بين يدي أقرب البشر إليّ، فقد تغير أمره بالنسبة لي، ولم يعد بإمكاني النظر إليه إلا باعتباره عدوا شخصيا، وخصما أبديا، أعرف تماما أنني انهزمت أمامه في معركتي الأولى والأهم، وأنني سأنهزم لاحقا أمامه في كل معركة بيننا. وتكاثرت المعارك الشخصية، حتى إنني حولت كل معاركي العامة معه إلى معارك شخصية، ما دامت النتيجة واحدة، هي الهزيمة. فقد تحول كل شخص أعرفه، ولو مجرد معرفة عابرة، يموت إلى شخص قريب وحميم جدا. وكان موته يندرج تلقائيا في قائمة هزائمي الطويلة، والتي أعرف أن خاتمتها ستكون بعنوان موت شخصي جدا ربما لن يعني أحداً.
نعم.. لم يعد أحد من الموتى ليخبرنا الحقيقة، كما قال محمود درويش في الجدارية، قبل أن يذهب بنفسه ليستطلع الحقيقة، ولم يعد أيضا حتى الآن، ولن يعود. وهذا يعني أن علينا جميعا أن نذهب إليه، وإلى الموت، بأنفسنا لنعرف الحقيقة التي نريدها، ولنجد الأجوبة عن الأسئلة التي لم يفلح أحد، منذ بدء البشرية، في الإجابة عنها، أو في جعلنا نتوقف عن طرحها على أنفسنا على الأقل، على ألا نتوقف عن المحاولات الفاشلة بحثا عن الإجابة عن سؤال الموت الكبير، انتظارا للموت فقط. ذلك أن المحاولات نفسها تعني، في مضمونها الوجودي، حياة حقيقية.
هل كتبت مقالاً عن الموت الآن؟ أم عن الحياة إذن؟ لست متأكدةً، فيبدو أن الفرق ليس كبيراً بين الكتابة عن الموت والكتابة عن الحياة، ما دام الخيط رفيعاً جدا بين الموت والحياة.. رفيعاً بقدر شهقة أخيرة، وإغماضة عين، وسكون نفس.. وحسب.
كنت أريد أن أكتب مقالي لهذا الأسبوع عن الموت الذي تلوح راياته حولي الآن، فتذكّرت أن مقالي الأسبوع الماضي، في هذه المساحة في "العربي الجديد"، كان بعنوان "لم يعد أحد من الموت ليخبرنا الحقيقة". استحضرت فيه روح الشاعر الراحل، محمود درويش، وجداريته عن الموت في ذكرى موته، من دون أن أصل إلى شيء أكثر من الحسرة على شاعرٍ مضى، من دون أن يكمل مشروعه الشعري الفريد، ومن دون أن يكمل ما يريد الكتابة عنه، كما هو واضح في ما تركه وراءه من كتابات ناقصة، وأبيات يتيمة على قيد النشر.
وها أنا الآن محاطةٌ بأخبار موتٍ ثقيل، كان العنوان الأبرز في حياة الكويتيين طوال الأسبوع، ففيه فقدنا الفنان الراحل عبد الحسين عبد الرضا، واكتشفنا أننا معنيون بموته أكثر بكثير مما كنا نظن، ونحن نجلس أمام التلفزيون، مستمتعين بأدائه الكوميدي الرفيع خمسين عامًا أو أكثر بقليل.
فهل أكمل مقالي الجديد عن الموت رثاء للفنان عبد الحسين عبد الرضا الذي سبق لي أن كتبت عنه أكثر من مقال ما بين الموت والحياة؟ أم أبحث عن حياة، أي حياة، لأكتب عنها بعيدا عن أجواء الموت التي أثقلت روحي، وعن أسئلته التي ظلت دائما بلا إجابات، وعن قتامته التي لا يفلح أي ضوء تقترحه الكتابة في إنارتها، وعن الأسماء الكثيرة التي اندرجت في قائمتي الشخصية له؟
بعد رحيل والدتي، رحمها الله، قبل سنوات قليلة، حاولت الكتابة عن ذلك الرحيل الأبدي، ففشلت فشلا ذريعاً يومها. ولم أسجل، في تحضيرات الكتابة، سوى أن الموت قبل موتها بين يدي لم يكن قريباً مني إلى هذا الحد، فقد كان يخصّ الآخرين حولي وحسب، وكنت أناوشه في الكتابة والشعر والأسئلة والبحث كمادة تتعلق بالآخرين. ولهذا كنت أملك من الحرية ما جعلني أنظر إليه تلك النظرة المحايدة إلى حد كبير. أما وقد خطف من بين يدي أقرب البشر إليّ، فقد تغير أمره بالنسبة لي، ولم يعد بإمكاني النظر إليه إلا باعتباره عدوا شخصيا، وخصما أبديا، أعرف تماما أنني انهزمت أمامه في معركتي الأولى والأهم، وأنني سأنهزم لاحقا أمامه في كل معركة بيننا. وتكاثرت المعارك الشخصية، حتى إنني حولت كل معاركي العامة معه إلى معارك شخصية، ما دامت النتيجة واحدة، هي الهزيمة. فقد تحول كل شخص أعرفه، ولو مجرد معرفة عابرة، يموت إلى شخص قريب وحميم جدا. وكان موته يندرج تلقائيا في قائمة هزائمي الطويلة، والتي أعرف أن خاتمتها ستكون بعنوان موت شخصي جدا ربما لن يعني أحداً.
نعم.. لم يعد أحد من الموتى ليخبرنا الحقيقة، كما قال محمود درويش في الجدارية، قبل أن يذهب بنفسه ليستطلع الحقيقة، ولم يعد أيضا حتى الآن، ولن يعود. وهذا يعني أن علينا جميعا أن نذهب إليه، وإلى الموت، بأنفسنا لنعرف الحقيقة التي نريدها، ولنجد الأجوبة عن الأسئلة التي لم يفلح أحد، منذ بدء البشرية، في الإجابة عنها، أو في جعلنا نتوقف عن طرحها على أنفسنا على الأقل، على ألا نتوقف عن المحاولات الفاشلة بحثا عن الإجابة عن سؤال الموت الكبير، انتظارا للموت فقط. ذلك أن المحاولات نفسها تعني، في مضمونها الوجودي، حياة حقيقية.
هل كتبت مقالاً عن الموت الآن؟ أم عن الحياة إذن؟ لست متأكدةً، فيبدو أن الفرق ليس كبيراً بين الكتابة عن الموت والكتابة عن الحياة، ما دام الخيط رفيعاً جدا بين الموت والحياة.. رفيعاً بقدر شهقة أخيرة، وإغماضة عين، وسكون نفس.. وحسب.