09 نوفمبر 2024
إلى أين سوف تهب رياح تركيا؟
أجمع متابعون للشأن التركي على أنه كانت هناك فرصة لاختيار مرشح قوي للرئاسة، هو عبدالله غُول، الرئيس السابق للبلاد، أمام الرئيس الحالي، رجب طيب أردوغان، لكن المعارضة القومية والعلمانية و"الكردية" أضاعت الفرصة، ولم تتمكن من الالتفاف حوله، وتسميته مرشحا لها. هذه الواقعة، وإن دلّت على تشتت المعارضة، وعجزها عن اللقاء على "قلب رجل واحد" (وهو أمرٌ غير مَرَضيٍ بالضرورة، إذ يقترن بالتعدّدية)، إلا أنها تحمل مغزىً آخر، لا يقل أهمية، وهو أنه لا منافس لحزب العدالة والتنمية إلا هذا الحزب نفسه، إذ إن غول، على الرغم من التباعد بينه وبين رفيقه القديم، ما زال يستظل هو وأردوغان بمظلة حزب واحد حديث النشأة نسبيا، في مواجهة أحزاب "تاريخية"، كحزب الشعب الجمهوري (الأتاتوركي). وقد جاء فشل المعارضة في تسمية غول لينقذ الحزب الحاكم (حزب الأغلبية) من حالة شبه انشقاقية، وليزُج أحزاب المعارضة في أتون البحث عن شخصية قوية كاريزمية، من دون نجاح يذكر في هذا المسعى، فالحزب الرئيس المعارض (الشعب الجمهوري) فشل في تصعيد رئيسه، كمال كليتشدار أوغلو، إلى الترشيح، بينما تقدّم إلى الترشيح من لم ينجح في الوصول إلى رئاسة الحزب (إنجي محرم)، وهو ما حمل أنصار أردوغان على القول، متهكّمين على المنافس الجديد، إنه " يخفق في الوصول إلى رئاسة حزبه، ويعتزم مع ذلك الترشح لرئاسة البلاد".
وبخلاف غُول، فإن أحداً في حزب العدالة والتنمية لم يفكر في الترشح أمام أردوغان، الذي لم يفكر في تصعيد مرشح آخر من حزبه، فلاعب كرة القدم السابق (ما دمنا في أجواء المونديال..) مولع بتسديد الأهداف، وجمع أكبر عدد منها، وعُمر اللاعب السياسي أطول بكثير من عمر اللاعب الرياضي. وعليه، من المبكر الحديث عن اعتزالٍ أو خلودٍ إلى الراحة للأب الجديد للأمة التركية (80 مليون نسمة، عدا من هم من أصول تركية في آسيا الوسطى وبعض دول أوروبا الغربية والشرقية). وقد استطاع أردوغان الجمع بين النجاحات الاقتصادية
والصناعية، وإزاحة المؤسسة العسكرية عن الشأن السياسي، مع نموذج داخلي متشدّد للحكم يزجّ معارضين بينهم نواب، وحتى منتقدين في السجون، مع تحويل نظام البلاد من برلماني إلى رئاسي، بما يجمع السلطات في يد الرئيس، ويهيئ لإلغاء منصب رئيس الحكومة. مع سياسةٍ خارجيةٍ منفتحةٍ على الشرق (روسيا والصين وإيران)، ومتوجسة من الغرب. ويتطلع أردوغان إلى العام 2023 الذي ينهي مائة عام على معاهدة لوزان التي قوّضت الامبراطورية العثمانية، ودفعت بلاد الأناضول إلى الانكفاء داخل حدودها، وقيدت حركتها في الممرات المائية، وبحيث تتحول تركيا إلى قوةٍ عالمية، يُحسب حسابها اقتصاديا وتقنياً وعسكرياً، وهو طموح كبير، لا تحِد منه مطامح الآخرين المنافسين فحسب (إسرائيل وإيران)، بل ينقسم المجتمع التركي حوله، فالمعارضة العلمانية/ القومية لا ترى في تركيا إلا امتدادا لأوروبا وجزءا منها، حتى لو كان بعض مكوناتها غاضباً، واستشعر جُرحاً قومياً من التلكؤ الأوروبي في تسهيل انضمام بلادهم إلى الاتحاد الأوروبي، غير أن المعارضة تلتقي على رفض النظام الرئاسي، على الرغم من الاستفتاء الشعبي في إبريل/ نيسان 2017 الذي أجازه. وتعارض تشدده الداخلي، وما تعتبره تقييدا للحريات الفردية والعامة. غير أن هذه المعارضة مثقلة بإرثٍ من الإخفاقات، طبعت النظام السياسي سبعة عقود، وسادتها انقلابات عسكرية، وقمع سافر، وفساد متشعب، وإفقار وعلمنة قسرية للمجتمع، وتبعية سياسية سافرة للغرب.
وقد نجح أردوغان في اجتذاب حزبي الحركة القومية والوحدة الكبرى إلى صفّه، بما يمثل أول انفتاحٍ على المكونات السياسية والحزبية وعلى المجتمع السياسي غير إسلامي النزعة، وبما
يضمن له قدرا من الاختراق لصفوف المعارضة، والخروج من أحادية الحكم واستتئثاره. ومع هذا التنوع الطفيف، سوف تشكل الانتخابات البرلمانية والرئاسية فرصةً للمعارضة، لكي تثبت وجودها، وتقطع مع ماضيها، وتُحسن الإصغاء لتحولات المجتمع في القرن الحادي والعشرين، حيث باتت القوى الريفية والمحافظة اجتماعيا قوةً وازنةً انتخابيا، وتتجه (المعارضة) نحو المشاركة الائتلافية مع حزب العدالة والتنمية في الحكم، بدلاً من التفكير القاصر بإقصائه بالضربة القاضية، كما كان يحدث مع نجم الدين أربكان وحزبه (الرفاه).
ومن الواضح أن الرئيس أردوغان (وحزبه) لن يتراجع عن مسعاه إلى تجميع السلطات في يده عبر آليات انتخابية، إلا إذا أثبتت المعارضة وجودها شريكا شبه متكافئ، غير قابل للقفز عنه أو الاستهانة بوجوده. وهو ما يجعل الأنظار مشدودةً إلى استحقاق يوم غد الأحد (24 يونيو/ حزيران)، فتموجات الكتلة الناخبة يستحيل التنبؤ بها مسبقا بصورة جازمة، فقد نجح أردوغان في ابتعاث قوة اجتماعية كبيرة، تضم الشرائح الضعيفة، وقطاعات واسعة من الطبقة الوسطى ومن الصناعيين، تقف خلفه وإلى جانبه، كما تمكّن، بالقدر نفسه، أو أقل قليلاً، في تظهير قوة اجتماعية كبيرة تعارضه، تضم قوميين وعلمانيين وأكرادا وعلويين.
ولا ريب أن نتائج الانتخابات سوف تسهم في بلورة صورة تركيا، واتجاهات هذا البلد الكبير، وتوجهاته الإقليمية، خلال السنوات القليلة المقبلة، وهو باعث الاهتمام الخارجي الملحوظ بهذه الانتخابات، فمصير اللاجئين السوريين المقتلعين من بلادهم، وإلى حد أقل، مستقبل سورية دولةً ووطنا، والمستقبل السياسي للأكراد، ومكانة دولة الاحتلال الإسرائيلي، والنفوذ الإيراني في المنطقة، والإسلام السياسي (الشيعي والسنّي)، والمشاريع الروسية والأميركية في المنطقة، كلها سوف تتأثر، بقدر أو بآخر، باتجاه الرياح التركية، بسبب دينامية المجتمع السياسي التركي، وحيوية وسائل إعلامه وفنونه، مقارنةً بانغلاق المجتمع نفسه في إيران، والسيطرة "الكهنوتية" الشرسة عليه، فيما يتاح للعرب التمتع بالتحيّز لهذا الفريق أو ذاك، وتخصيص منابر إعلامية عربية جمّة للخوض، بصورة مباشرة، في هذا المعترك الانتخابي، في غياب انتخابات عربية مماثلة، ومع عدم التفكير.. مجرد التفكير بمنح المواطنين العرب فرصةً مماثلةً لتجربة حياة انتخابية، وكما هو حال الأتراك وبقية شعوب المعمورة.
وبخلاف غُول، فإن أحداً في حزب العدالة والتنمية لم يفكر في الترشح أمام أردوغان، الذي لم يفكر في تصعيد مرشح آخر من حزبه، فلاعب كرة القدم السابق (ما دمنا في أجواء المونديال..) مولع بتسديد الأهداف، وجمع أكبر عدد منها، وعُمر اللاعب السياسي أطول بكثير من عمر اللاعب الرياضي. وعليه، من المبكر الحديث عن اعتزالٍ أو خلودٍ إلى الراحة للأب الجديد للأمة التركية (80 مليون نسمة، عدا من هم من أصول تركية في آسيا الوسطى وبعض دول أوروبا الغربية والشرقية). وقد استطاع أردوغان الجمع بين النجاحات الاقتصادية
وقد نجح أردوغان في اجتذاب حزبي الحركة القومية والوحدة الكبرى إلى صفّه، بما يمثل أول انفتاحٍ على المكونات السياسية والحزبية وعلى المجتمع السياسي غير إسلامي النزعة، وبما
ومن الواضح أن الرئيس أردوغان (وحزبه) لن يتراجع عن مسعاه إلى تجميع السلطات في يده عبر آليات انتخابية، إلا إذا أثبتت المعارضة وجودها شريكا شبه متكافئ، غير قابل للقفز عنه أو الاستهانة بوجوده. وهو ما يجعل الأنظار مشدودةً إلى استحقاق يوم غد الأحد (24 يونيو/ حزيران)، فتموجات الكتلة الناخبة يستحيل التنبؤ بها مسبقا بصورة جازمة، فقد نجح أردوغان في ابتعاث قوة اجتماعية كبيرة، تضم الشرائح الضعيفة، وقطاعات واسعة من الطبقة الوسطى ومن الصناعيين، تقف خلفه وإلى جانبه، كما تمكّن، بالقدر نفسه، أو أقل قليلاً، في تظهير قوة اجتماعية كبيرة تعارضه، تضم قوميين وعلمانيين وأكرادا وعلويين.
ولا ريب أن نتائج الانتخابات سوف تسهم في بلورة صورة تركيا، واتجاهات هذا البلد الكبير، وتوجهاته الإقليمية، خلال السنوات القليلة المقبلة، وهو باعث الاهتمام الخارجي الملحوظ بهذه الانتخابات، فمصير اللاجئين السوريين المقتلعين من بلادهم، وإلى حد أقل، مستقبل سورية دولةً ووطنا، والمستقبل السياسي للأكراد، ومكانة دولة الاحتلال الإسرائيلي، والنفوذ الإيراني في المنطقة، والإسلام السياسي (الشيعي والسنّي)، والمشاريع الروسية والأميركية في المنطقة، كلها سوف تتأثر، بقدر أو بآخر، باتجاه الرياح التركية، بسبب دينامية المجتمع السياسي التركي، وحيوية وسائل إعلامه وفنونه، مقارنةً بانغلاق المجتمع نفسه في إيران، والسيطرة "الكهنوتية" الشرسة عليه، فيما يتاح للعرب التمتع بالتحيّز لهذا الفريق أو ذاك، وتخصيص منابر إعلامية عربية جمّة للخوض، بصورة مباشرة، في هذا المعترك الانتخابي، في غياب انتخابات عربية مماثلة، ومع عدم التفكير.. مجرد التفكير بمنح المواطنين العرب فرصةً مماثلةً لتجربة حياة انتخابية، وكما هو حال الأتراك وبقية شعوب المعمورة.