إلياس فركوح .. رحيل متعدّد
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
تتسم تجربة الكاتب الأردني، إلياس فركوح، بالتعدّد، حتى في الحقل الواحد. فهو إلى جانب كونه مبدعاً ومترجماً وناشراً، ساهم في دفع كتّابٍ كثيرين إلى نشر إبداعاتهم، وفي ترجمة آداب من العالم تميزت بها دار أزمنة للنشر التي أسّسها. ويمكن أيضاً اعتبار تجربته الكتابية في القصة والرواية تعميقاً لما نَظّر له الكاتب المصري إدوار الخراط، ومارسه في أعماله السردية، كروايته "رامة والتنين"، حيث تتدخل اللغة في تركيب العوالم السردية، وتتغذى القصة والرواية بلغة القصيدة، ويخامر الشعر البنية السردية، ويسري خفيفاً كامناً في عروقها. سار فركوح في هذا التوجّه، لكن في مسار مختلف تفرّد به، يتمثل بتكريس التجريب عبر اللغة، بهدف اكتشاف إمكاناتها الهائلة، وهو تجريب واعٍ بطبيعة هذه اللغة ومرموزاتها وحمولاتها الجمالية.
أنتج هذا التوجه الجديد في القصة، (يذكر في سياقه الأردني الراحل جمال أبو حمدان أيضاً) أدباً سردياً جديداً، تتفوق فيه اللغة على غيرها من عناصر السرد. وقد وفّر هذا الأسلوب، الذي بشّر به الخراط أول مرة، طريقاً جديدة في "قول" القصة والرواية، يعتمد على تقديم المادة السردية تقديماً يكتنفه الغموض والالتباس، ولكن من دون أن يلغي مادته الحكائية أو يصرعها. وكان إلياس فركوح ممن عمّقوا هذا التوجّه، وأضفوا عليه مسحةً متجدّدة، ولمسةً خاصةً، من خلال إبداعاته في القصة والرواية.
فوجئ الوسط الثقافي العربي بالرحيل المفجع لإلياس فركوح، وغدت ليلة رحيله، يوم الأربعاء الماضي، أشبهَ بليلة مأتمية بحزن ووجع مضاعفَين، في ظلّ الحصار الذي فرضته جائحة كورونا على تنقلات الناس وحركتهم، ما حال دون حضور كثيرين من أحباب الفقيد وقرّائه مراسم تشييع جثمانه.
كان كاتباً تجريبياً عرف كيف يبني، لبنةً لبنة، تجربته وهوّيته الإبداعية، من خلال ثماني مجموعات قصصية، صدرت له بين 1978 و2002. "الصفعة" أولاها، انطلق فيها من المرجعيات الواقعية. واستخدم في الثانية "طيور عمّان تحلّق منخفضة" (1981) شخصيات "واضحة" تتحرّك ضمن خريطة محدّدة وإحداثيات واضحة. وقطع في الثالثة "إحدى وعشرون طلقة للنبي" (1982) مع أسلوبه الأول، وبدأ في شق طرق جديدة كانت اللغة فيها أسّاً شكلياً، وبوابة للشروع إلى نواة النصوص ومخبرها. وقد نالت هذه المجموعة جائزة رابطة الكتّاب الأردنيين لأفضل مجموعة قصصية في ذلك العام، نظراً إلى نزوحها الواضح إلى التّجريب، واهتمامها بالمونولوجات والبواطن، وامتزاج شكل اللغة فيها بالرؤية، والانتقال من الحكاية إلى الحالة بحمولاتها الإشارية الملغزة. وأصبحت قصص إلياس، بعد مجموعتيه الأوليين، تشير ولا تقصّ. وقد حملت مجموعته القصصية الأخيرة عنواناً شاعرياً جميلاً، أعتبره من أجمل عناوين الأدب، فإذا أمكن اعتبار عنوان مجموعة سركون بولص "الوصول إلى مدينة أين" أبلغ العناوين الشعرية وأجملها، فإن عنوان إلياس "حقول الظلال" أجمل العناوين القصصية.
وكما تعدّده في القصة، لقيت روايات إلياس جانباً من الاهتمام النقدي، ومنها الثالثة "أرض اليمبوس" التي صعدت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) في دورتها الأولى عام 2008. أتذكّر أنني في تلك الفترة اتصلت به من مسقط، ولم أجده على الخط، وردّت عليّ حرمه، وكنت أتابع حينها معه إصدار مجموعتي القصصية "لماذا لا تمزح معي؟" عن دار أزمنة، فتمنّيت لروايته أن تفوز بالجائزة الأولى، وتمنت معي كذلك السيدة زوجته ذلك، إلا أن رواية بهاء طاهر "واحة الغروب" هي التي فازت، ما دلّ على أن المنافسة كانت على أشدّها. وروايتا إلياس فركوح "قامات الزبد" و"أعمدة الغبار" تعمّقان الحساسية الجديدة في الكتابة العربية، من خلال الفهم الواعي لدور اللغة، مع الميل إلى الجديد ومجافاة التقليدي وخلخلته. وبالتالي، لا تكون المعرفة التي تحملها الرواية مقتصرة على قول الواقع أو الإخبار به، بل تستفيد من إمكانات الشعر والتشكيل وباقي التعبيرات الفنية التي امتلك الراحل مناهجها وآلياتها وأساليبها، ساعياً إلى استثمار القدرات اللانهائية للغة.
وكما كان إلياس متعدّداً، أبت ليلة رحيله عنا إلا أن تكون متعدّدة، بعدما تواترت، على مدار أيام، صورته الباسمة في صفحات منصّات مواقع التواصل الاجتماعي بين كتّاب من مختلف أقطار الوطن العربي.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية