07 نوفمبر 2024
إنها السياسة يا غبي
ازدادت، خلال الأعوام الأخيرة، الأطروحات التي تولي أهميةً كبرى للعوامل الاقتصادية وتأثيرها في القرارات والخطط السياسية، فبعد أكثر من عشرين عاما على استخدام حملة بيل كلينتون الانتخابية عبارة "إنه الاقتصاد يا غبي" عام 1992، وصلت تلك الأطروحات إلى الذروة مع انتخاب رجل الأعمال، دونالد ترامب، رئيسا للولايات المتحدة، وهو شخصٌ يتعامل مع كل القضايا بمنظور المال فقط.
تركّز هذه الأطروحات على أن الاقتصاد هو الأهم في صياغة السياسات الدولية، وأن الولايات المتحدة يحكمها عمالقة المال والأعمال في شارع وول ستريت الذي يضم المؤسسات المالية الأميركية الضخمة، وأن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي يتحكّمان في سياسات الدول الفقيرة ودول العالم الثالث، عن طريق القروض والمنح المشروطة، كما أن الساسة الذين يحقّقون معدلات نمو اقتصادي مرتفعة هم الأنجح والأكثر استمرارا في مناصبهم.
برزت، في منطقة الشرق الأوسط، أهمية تلك الأطروحة مع النجاحات الاقتصادية للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وحزب العدالة والتنمية في تركيا، وهي نجاحاتٌ ينسب لها الفضل في استمرار التجربة واتخاذها نموذجا يُحتذى به، وكذلك مواجهتها كل التقلبات والعواصف السياسية، وأشهرها محاولة الانقلاب في 2016. فوفقا لتلك الأطروحات، كان السبب الأهم لخروج ملايين الأتراك للتصدي للانقلاب خشيتهم من فقدان التقدم الاقتصادي الكبير، ومعدلات الرفاه التي يتمتعون بها، ولذلك خرجوا من أجل الحفاظ على تلك الإنجازات.
وبعد الانقلاب العسكري في مصر، ظهرت "نظرية الرز" في تفسير أفعال النظام المصري، بعد نشر تسريباتٍ بين عبدالفتاح السيسي ومدير مكتبه، تناولت كيف يمكنهم الحصول على مليارات الخليج، أو كما وصفهم السيسي نفسه بأن لديهم "فلوس زي الرز". ولذلك يتخذ
بعضهم من الأموال/ الرز نموذجا تفسيريا لكل قرارات النظام المصري خلال الأعوام الماضية.
ولكن خلال عام 2018، ظهرت عدة حوادث يمكن اعتبارها إثباتا على أن الاقتصاد عامل مهم جدا، لكنه ليس الوحيد الذي يمكن أن يحدّد أجندة السياسة، بل وفي بعض الأحيان لا يكون العامل الأهم في المعادلة، ويمكن اعتبار مقتل جمال خاشقجي أبرز مثال على ذلك. ففي البداية ظهرت أصواتٌ تقول إن تركيا ستغض الطرف عن القضية، خوفا من فقدان ملايين السياح السعوديين، وكذلك آلاف الشركات السعودية التي تضخ مليارات الدولارات في شرايين الاقتصاد التركي، أو تعمدا مقابل عشرات مليارات الدولارات، سوف تدفعها السعودية إلى أنقرة لاسترضائها. وتحدث كثيرون وقتها عن منجم الذهب الذي وجده أردوغان في تلك الجريمة، وعن رغبته في استغلال القضية اقتصاديا حتى آخر رمق.
لكن ما حدث بعد ذلك خالف هذه التوقعات، فوجدنا تسريباتٍ تركيةً لم تنقطع تفضح التورط السعودي الرسمي في الجريمة، وتشير بوضوح إلى مسؤولية ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، عن عملية الاغتيال، على الرغم من محاولات الاسترضاء السعودية المتكرّرة، علنا عبر ولي العهد نفسه الذي صرّح بأن العلاقات السعودية التركية ستبقى على خير ما يرام، ما دام هو وليا للعهد، وسرّا عبر أمير مكة، خالد الفيصل الذي كتبت "نيويورك تايمز" أنه عرض امتيازاتٍ ومساعداتٍ اقتصاديةً على أردوغان في أثناء زيارته تركيا، لكن الأخير رفضها واعتبرها رشوة سياسية.
فات على أصحاب نظرية "المال يحكم كل شيء" أن هناك عوامل أخرى متداخلة، قد تحسم تفوقها في معادلة اتخاذ القرار، فهناك عوامل أمنية وسياسية واستراتيجية متداخلة، ساهمت في التجاهل التركي للمليارات السعودية الموعودة، فحادث الاغتيال يضرب تركيا في مقتل، من ناحية كونها ملاذا آمنا للسياسيين من كل الاتجاهات، خصوصا بعد تركّز المعارضين العرب فيها إثر انتكاسة الربيع العربي، كما أن التستر التركي المحتمل سيقضي تماما على النموذج الأخلاقي الذي يسوّقه أردوغان طوال الأعوام الماضية، ويستثمر فيه بدرجة كبيرة (بغض النظر عن مدى صحته ودرجتها من عدمه)، خصوصا أن الجريمة أوضح من أن يتم التغطية عليها. وبالطبع، كانت المعارضة التركية ستستغل تلك الجريمة للتشهير بأردوغان وحزبه، خلال الفعاليات الانتخابية المقبلة، فقد فات على السعوديين أن تركيا، في النهاية، دولةٌ تتغير
فيها أنظمة الحكم عبر الانتخابات، ولن يسمح أحد لنفسه بأن يتورّط ويلوث سمعته بهذه الطريقة الفجة، حتى لو مقابل أموال قارون.
وأخيرا، وهذا هو العامل الأهم، يبدو أن تركيا وجدت في تلك الجريمة فرصةً سانحةً، ليس من أجل التغطية عليها، بل من أجل وضع ضغطٍ هائلٍ على بن سلمان بحيث يفضحه دوليا بشكل غير مسبوق، وربما يدفع إلى تنحيته عن المشهد، فوجود ولي العهد في السلطة خلال الخمسين عاما المقبلة، كما يخطط الأخير سيكون ضارّا بالمصالح التركية إلى درجةٍ بعيدة، كما أن تلك الجريمة مثلت فرصةً أمام تركيا للرد على استفزازات بن سلمان، وخططه الضارة بالمصالح التركية، المتمثلة في دعم الأكراد السوريين والهجمات الإعلامية المتواصلة في الإعلام السعودي ضد تركيا وأردوغان.
ومن الناحية الاقتصادية، كانت هناك مبالغات في أهمية الاقتصاد السعودي والسياحة السعودية لتركيا التي استقبلت 43 مليون سائح خلال 11 شهرا من 2108. وحسب بيانات وزارة الثقافة والسياحة التركية، وصل عدد السياح المقبلين من السعودية إلى تركيا عام 2017 إلى 650 ألف سائح، أي أن نسبتهم إلى إجمالي عدد السياح ضئيلة جدا وغير مؤثرة، كما أن تركيا لم تأبه كثيرا بأرقام التبادل التجاري مع السعودية، وعدد الشركات السعودية في تركيا، عندما قرّرت مساندة قطر في أزمتها مع دول الحصار، وأرسلت قواتٍ عسكريةً لإجهاض أي تحرّكات عسكرية محتملة.
قد يرد قائل بالاستشهاد بموقف ترامب الداعم بن سلمان، للتأكيد على أهمية "الرز" مرة أخرى، وكذلك الحديث عن تبرير الرئيس الأميركي ذلك الدعم بحاجة الولايات المتحدة للمليارات السعودية التي ستنعش الاقتصاد الأميركي وتوفر ملايين الوظائف، لكن الرد سيكون ببساطةٍ أن تلك مجرّد رؤيةٍ، أو وجهة نظر مفرطةٍ في بساطتها. والدليل أن حتى مناصري ترامب من أعضاء حزبه لم يكترثوا لتلك المليارات، وصوتوا على قرار صادر من مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون، يعتبر بن سلمان مسؤولا عن قتل خاشقجي. كما أن وسائل الإعلام الأميركية نشرت عشرات التقارير التي أثبتت أن تلك الصفقة السعودية المزعومة ليست إلا أكاذيب يردّدها ترامب، وأنها ليست إلا خطابات نياتٍ لم تترجم إلى أي صفقاتٍ فعلية، وأنها لن تخلق إلا عشرات الوظائف الجديدة فقط، وليس ملايين الوظائف كما يزعم ترامب.
وحتى العوامل الاقتصادية، يجب أن تكون منظمةً ومنهجيةً، وفقا لسياساتٍ منسقة، وليست مجرد أموالٍ يتم الحصول عليها، فالمال إذا لم يكن متحكما به من "سياسة" رشيدة لن ينتج عنه أي شيء. ولنا في دول، مثل فنزويلا حاليا، وليبيا في عهد معمر القذافي، والعراق في عهد صدام حسين، أمثلة واضحة، فقد كانت لديهم أموال طائلة من النفط، لكن سياستهم الطائشة، ومغامراتهم السياسية الغبية، أودت بهم إلى الهاوية. الخلاصة أن الأطروحات السطحية التي تركّز على العوامل الاقتصادية فقط في التحليل ينبغي أن تنتبه إلى أن عوامل أخرى كثيرة، ينبغي أخذها في الحسبان، أو بعبارة أخرى "إنها السياسة يا غبي".
برزت، في منطقة الشرق الأوسط، أهمية تلك الأطروحة مع النجاحات الاقتصادية للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وحزب العدالة والتنمية في تركيا، وهي نجاحاتٌ ينسب لها الفضل في استمرار التجربة واتخاذها نموذجا يُحتذى به، وكذلك مواجهتها كل التقلبات والعواصف السياسية، وأشهرها محاولة الانقلاب في 2016. فوفقا لتلك الأطروحات، كان السبب الأهم لخروج ملايين الأتراك للتصدي للانقلاب خشيتهم من فقدان التقدم الاقتصادي الكبير، ومعدلات الرفاه التي يتمتعون بها، ولذلك خرجوا من أجل الحفاظ على تلك الإنجازات.
وبعد الانقلاب العسكري في مصر، ظهرت "نظرية الرز" في تفسير أفعال النظام المصري، بعد نشر تسريباتٍ بين عبدالفتاح السيسي ومدير مكتبه، تناولت كيف يمكنهم الحصول على مليارات الخليج، أو كما وصفهم السيسي نفسه بأن لديهم "فلوس زي الرز". ولذلك يتخذ
ولكن خلال عام 2018، ظهرت عدة حوادث يمكن اعتبارها إثباتا على أن الاقتصاد عامل مهم جدا، لكنه ليس الوحيد الذي يمكن أن يحدّد أجندة السياسة، بل وفي بعض الأحيان لا يكون العامل الأهم في المعادلة، ويمكن اعتبار مقتل جمال خاشقجي أبرز مثال على ذلك. ففي البداية ظهرت أصواتٌ تقول إن تركيا ستغض الطرف عن القضية، خوفا من فقدان ملايين السياح السعوديين، وكذلك آلاف الشركات السعودية التي تضخ مليارات الدولارات في شرايين الاقتصاد التركي، أو تعمدا مقابل عشرات مليارات الدولارات، سوف تدفعها السعودية إلى أنقرة لاسترضائها. وتحدث كثيرون وقتها عن منجم الذهب الذي وجده أردوغان في تلك الجريمة، وعن رغبته في استغلال القضية اقتصاديا حتى آخر رمق.
لكن ما حدث بعد ذلك خالف هذه التوقعات، فوجدنا تسريباتٍ تركيةً لم تنقطع تفضح التورط السعودي الرسمي في الجريمة، وتشير بوضوح إلى مسؤولية ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، عن عملية الاغتيال، على الرغم من محاولات الاسترضاء السعودية المتكرّرة، علنا عبر ولي العهد نفسه الذي صرّح بأن العلاقات السعودية التركية ستبقى على خير ما يرام، ما دام هو وليا للعهد، وسرّا عبر أمير مكة، خالد الفيصل الذي كتبت "نيويورك تايمز" أنه عرض امتيازاتٍ ومساعداتٍ اقتصاديةً على أردوغان في أثناء زيارته تركيا، لكن الأخير رفضها واعتبرها رشوة سياسية.
فات على أصحاب نظرية "المال يحكم كل شيء" أن هناك عوامل أخرى متداخلة، قد تحسم تفوقها في معادلة اتخاذ القرار، فهناك عوامل أمنية وسياسية واستراتيجية متداخلة، ساهمت في التجاهل التركي للمليارات السعودية الموعودة، فحادث الاغتيال يضرب تركيا في مقتل، من ناحية كونها ملاذا آمنا للسياسيين من كل الاتجاهات، خصوصا بعد تركّز المعارضين العرب فيها إثر انتكاسة الربيع العربي، كما أن التستر التركي المحتمل سيقضي تماما على النموذج الأخلاقي الذي يسوّقه أردوغان طوال الأعوام الماضية، ويستثمر فيه بدرجة كبيرة (بغض النظر عن مدى صحته ودرجتها من عدمه)، خصوصا أن الجريمة أوضح من أن يتم التغطية عليها. وبالطبع، كانت المعارضة التركية ستستغل تلك الجريمة للتشهير بأردوغان وحزبه، خلال الفعاليات الانتخابية المقبلة، فقد فات على السعوديين أن تركيا، في النهاية، دولةٌ تتغير
وأخيرا، وهذا هو العامل الأهم، يبدو أن تركيا وجدت في تلك الجريمة فرصةً سانحةً، ليس من أجل التغطية عليها، بل من أجل وضع ضغطٍ هائلٍ على بن سلمان بحيث يفضحه دوليا بشكل غير مسبوق، وربما يدفع إلى تنحيته عن المشهد، فوجود ولي العهد في السلطة خلال الخمسين عاما المقبلة، كما يخطط الأخير سيكون ضارّا بالمصالح التركية إلى درجةٍ بعيدة، كما أن تلك الجريمة مثلت فرصةً أمام تركيا للرد على استفزازات بن سلمان، وخططه الضارة بالمصالح التركية، المتمثلة في دعم الأكراد السوريين والهجمات الإعلامية المتواصلة في الإعلام السعودي ضد تركيا وأردوغان.
ومن الناحية الاقتصادية، كانت هناك مبالغات في أهمية الاقتصاد السعودي والسياحة السعودية لتركيا التي استقبلت 43 مليون سائح خلال 11 شهرا من 2108. وحسب بيانات وزارة الثقافة والسياحة التركية، وصل عدد السياح المقبلين من السعودية إلى تركيا عام 2017 إلى 650 ألف سائح، أي أن نسبتهم إلى إجمالي عدد السياح ضئيلة جدا وغير مؤثرة، كما أن تركيا لم تأبه كثيرا بأرقام التبادل التجاري مع السعودية، وعدد الشركات السعودية في تركيا، عندما قرّرت مساندة قطر في أزمتها مع دول الحصار، وأرسلت قواتٍ عسكريةً لإجهاض أي تحرّكات عسكرية محتملة.
قد يرد قائل بالاستشهاد بموقف ترامب الداعم بن سلمان، للتأكيد على أهمية "الرز" مرة أخرى، وكذلك الحديث عن تبرير الرئيس الأميركي ذلك الدعم بحاجة الولايات المتحدة للمليارات السعودية التي ستنعش الاقتصاد الأميركي وتوفر ملايين الوظائف، لكن الرد سيكون ببساطةٍ أن تلك مجرّد رؤيةٍ، أو وجهة نظر مفرطةٍ في بساطتها. والدليل أن حتى مناصري ترامب من أعضاء حزبه لم يكترثوا لتلك المليارات، وصوتوا على قرار صادر من مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون، يعتبر بن سلمان مسؤولا عن قتل خاشقجي. كما أن وسائل الإعلام الأميركية نشرت عشرات التقارير التي أثبتت أن تلك الصفقة السعودية المزعومة ليست إلا أكاذيب يردّدها ترامب، وأنها ليست إلا خطابات نياتٍ لم تترجم إلى أي صفقاتٍ فعلية، وأنها لن تخلق إلا عشرات الوظائف الجديدة فقط، وليس ملايين الوظائف كما يزعم ترامب.
وحتى العوامل الاقتصادية، يجب أن تكون منظمةً ومنهجيةً، وفقا لسياساتٍ منسقة، وليست مجرد أموالٍ يتم الحصول عليها، فالمال إذا لم يكن متحكما به من "سياسة" رشيدة لن ينتج عنه أي شيء. ولنا في دول، مثل فنزويلا حاليا، وليبيا في عهد معمر القذافي، والعراق في عهد صدام حسين، أمثلة واضحة، فقد كانت لديهم أموال طائلة من النفط، لكن سياستهم الطائشة، ومغامراتهم السياسية الغبية، أودت بهم إلى الهاوية. الخلاصة أن الأطروحات السطحية التي تركّز على العوامل الاقتصادية فقط في التحليل ينبغي أن تنتبه إلى أن عوامل أخرى كثيرة، ينبغي أخذها في الحسبان، أو بعبارة أخرى "إنها السياسة يا غبي".