في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، لم يكن للساحة التشكيلية العالمية حديث إلا خبر اختفاء تاجر الفن الحديث، إنيغو فيلبريك، عن الأنظار، بعد اتهامه بالاحتيال على عملائه بأكثر من 20 مليون دولار، وبيعه الأعمال الفنية ذاتها لأكثر من مشتر.
وبعد ثمانية أشهر من اختفائه المريب، أُعلن في يونيو/حزيران الماضي عن اعتقال تاجر الفن الشاب (33 عاماً) في جزيرة فانواتو بالقرب من أستراليا في المحيط الهادئ. ومن المتوقع أن يمثل أمام محكمة فيدرالية أميركية قريباً، وفقًا لبيان مكتب المدعي العام الأميركي في المنطقة الجنوبية من نيويورك.
وجهت للشاب تهمة الاحتيال الإلكتروني والتزوير التي قد تؤدي إلى قضائه 22 عاماً في السجن، في حين جمّدت اللسطات أصوله في أميركا وبريطانيا،وقيمتها حوالي 70 مليون دولار.
بدأت الفضيحة في الخروج إلى العلن فور اختفاء إنيغو فيلبريك كجسد عن الأنظار في أكتوبر/تشرين الأولل الماضي، فيما ملأ اسمه عناوين الصحف متبوعاً بكلمة "محتال" لأول مرة، بعد أن رفعت شركة ألمانية تعمل في مجال القروض المالية تسمى "فاين آرت بارتنرز" Fine Art Partners دعوى قضائية ضده في محكمة فلوريدا، زاعمة أنه احتجز أعمالاً فنية بقيمة ملايين الدولارات. وكان العمل الأكثر إثارة للجدل ضمن هذه المجموعة، هو عمل تركيبي للفنانة اليابانية التجريبية يايوي كوساما بعنوان Infinity Mirror Room الذي قالت شركة "فاين آرت بارتنرز" إن فيلبريك رفض إعادته، بعد أن باع جزءاً منه بعنوان "الحب الأبدي لليقطين" للنظام السعودي بمبلغ خمسة ملايين دولار عام 2019.
شجعت الدعوى القضائية للشركة الألمانية سلسلة من الدعاوى ذات الصلة التي اتهمت فيلبريك بالاحتيال، فرفعت شركة Guzzini Properties Ltd، وهي شركة خاصة تجمع الأعمال الفنية، دعوى قضائية ضد فيلبريك، ولكن في نيويورك هذه المرة، مدعية أنها مولت شراءه إحدى لوحات الفنان الأميركي رودولف ستينغل التي باعها فيلبريك لاحقاً من دون إذن منها. وخلال شهر واحد من افتضاح أمره، شرعت محكمة بريطانية في تجميد أصوله في بريطانيا، خاصة بعد اتهامه من قبل المحكمة الجزئية الأميركية في مانهاتن بالاحتيال الإلكتروني والتزوير.
ووفقاً لهذه الشكوى، فقد "انخرط إنيغو فيلبريك في الفترة بين 2016 و2019 في مؤامرة للاحتيال على العديد من الأفراد والكيانات في سوق الفن المتمركز في نيويورك وخارجها، من أجل تمويل الأعمال الفنية".
كما تم الكشف لاحقاً عن أن تاجر الفن الشاب، الذي أدار صالات العرض الفني في لندن وميامي، كان موضوعاً لتحقيق من قبل فريق مكافحة الجرائم الفنية في نيويورك، والتابع لمكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي.
التاجر النجم لم يعرف تاريخ الفن المعاصر محتالاً "جريئاً" كـ إنيغو فيلبريك، فالشاب الذي يوصف صعوده السريع في عالم الفن بأنه كان "أسطورياً"، ولقبه البعض الآخر بـ"الطفل المعجزة"، اعتاد في صفقاته الرابحة أن يكون سريعاً ومقداماً، وفي الوقت ذاته متعجرفاً، إذ امتلك ثقة المضاربة ضد حيتان الاتجار في الفن في مزادات بالملايين، حتى أطلقت عليه الصحافة "ملك التقليب"، والتقليب في الفن هو شراء الأعمال الفنية في المزادات، لبيعها من جديد بسعر مضاعف في أقصر فترة ممكنة، ومن أجل تحقيق الربح السريع، وظف فيلبريك مضاربين يعملون لصالحه.
إنيغو فيلبريك هو ابن هاري فيلبريك المدير السابق لمتحف Aldrich للفن المعاصر في Ridgefield بولاية كونيتيكت الأميركية، وتخرج فيلبريك الابن من كلية غولدسميث المرموقة في لندن، ليفتتح قاعة عرضه الخاصة في لندن عام 2013، وكان فيلبريك مدعوماً منذ البداية من قبل جاي غوبلينغ، مؤسس معرض White Cube الشهير، حيث كان يعمل فيلبريك الابن رئيساً لمبيعات السوق الثانوية به. لكن الابن الذي تمرد منذ البداية، لم يركن إلى العمل في الظل، فقرر تأسيس سمعة طيبة بين هواة جمع اللوحات والمضاربين الدوليين، لكونه خبيراً في أعمال الفنانين المعاصرين، مثل رودولف ستينغل وواد غيتون وكريستوفر وول وستارلينغ روبي وغيرهم الذين ارتفعت أسعارهم بشكل كبير خلال أوائل 2010.
هنا، صعد نجم إنيغو فيلبريك بسرعة في صفوف عالم الفن، خاصة بعد دخوله علاقة عاطفية مع الممثلة الصاعدة فيكتوريا بيكر هاربر، التي تلعب دور البطولة في السلسلة التلفزيونية Made In Chelsea. وبحلول عام 2016، كان الشاب الأميركي يكسب 55 مليون دولار سنوياً بفضل مبيعاته لأعمال الفنانين الناشئين، حيث يشتري أعمال المواهب الصاعدة ليبيعها لهواة جمع كل ما هو غريب ونادر من الفن، وشجع هذا النجاح المبكر فيلبريك على المخاطرة ببيع العمل ذاته أكثر من مرة، ما أوقعه سريعاً عن القمة التي كان قد وصل إليها.
فمن خلال معرضه اللندني الخاص، والذي بلغت مبيعاته ما يقرب من 130 مليون دولار عام 2017، افتتح فيلبريك فرعاً آخر في ميامي عام 2018. ليصبح من حينها أحد المزايدين البارزين على أعمال باهظة الثمن في المزادات المعاصرة، ولكن في أواخر عام 2010، بدأ الطلب على الأعمال التي يروج لها فيلبريك في التراجع، ما ترك التاجر أمام تحدي إرضاء العملاء المتعطشين للربح السريع في سوق هابطة، حتى تم الكشف عن المخططات الاحتيالية لفيلبريك لأول مرة من خلال الدعاوى القضائية التي رفعت ضده في الولايات المتحدة وبريطانيا نهاية 2019.
بحلول عام 2016، كان الشاب الأميركي يكسب 55 مليون دولار سنوياً بفضل مبيعاته لأعمال الفنانين الناشئين، حيث يشتري أعمال المواهب الصاعدة ليبيعها لهواة جمع كل ما هو غريب ونادر من الفن
النزاع على باسكيا اليوم، ومع احتدام تداعيات القبض على فيلبريك في يونيو/حزيران الماضي، تشهد محاكم العديد من عواصم العالم ومدنه صراعاً كبيراً بين ضحاياه من مستثمري الفن وشركات القروض وجامعي الفن الهواة، من أهمها النزاع القائم حالياً في المحكمة الفيدرالية الأميركية حول ملكية لوحة "الرطوبة" (1982) للفنان جان ميشيل باسكيا، والتي تقدر قيمتها بـ 12 مليون دولار، وقد باعها فيلبريك مرّتين، حيث تطالب شركة Satfinance بملكية اللوحة، وهي شركة خارجية للقروض الفنية يملكها تاجر الفن الصربي ساشا بيسكو، الذي استثمر ما يقرب من 12.2 مليون دولار في لوحة باسكيا المشار إليها عام 2016، بناءً على طلب من فيلبريك، معتقداً أنه بهذا سيكون المالك الوحيد للوحة، وسيتمكن من المشاركة في عائدات إعادة البيع المربحة في وقت ما في المستقبل القريب.
إلا أن فيلبريك نقل ملكية لوحة باسكيا في الخفاء إلى شركته Boxwood Green في جيرسي، بل واستخدم اللوحة كجزء من مجموعة أكبر من الأعمال الفنية كضمان لدى شركة Athena Art Finance مقابل قرض بـ 14 مليون دولار!
كذلك، تشير ملفات المحاكمة الجديدة في نيويورك، إلى أن فيلبريك اشترى لوحة "بيكاسو" للفنان النيويوركي رودولف ستينغل مقابل 7.1 ملايين دولار، بقرض خاص من شركة "فاين آرت بارتنرز" الألمانية، ليبيعها لاحقاً من دون إخطار الشركة المقرضة مقابل 6 ملايين دولار إلى شركة أخرى تسمى Guzzini Properties، وهي شركة خارجية يملكها الثريان البريطانيان سيمون وديفيد روبن، واستولى بعدها على المال، وانكشفت اللعبة سريعاً حين عرضت Guzzini Properties اللوحة في مزاد كريستي عام 2017. ليتقدم بعدها الممول الصربي ألكسندر بيسكو مطالباً بحقه في 50% من لوحة ستينغل، قائلاً إن فيلبريك باعه 50 في المائة من ملكية اللوحة مقابل 3.35 ملايين دولار، مشيراً أيضاً إلى أنه اشترى لوحة "الرطوبة" لجان ميشيل باسكيا مناصفة مع فيلبريك مقابل 18.4 مليون دولار، بعد أن أقنعه المحتال أنه يمكنهم بيعها مقابل 35 مليون دولار في مزاد كريستي، وهو البيع الذي لم يتحقق أبداً.
ربما، لخص المدعي الأميركي العام في جنوب نيويورك جيفري إس برمان الأزمة الراهنة التي تسبب فيها فيلبريك بين مستثمري الفن وهواة جمعه، في بيانه الصحافي الذي أعقب القبض على المحتال قائلاً: "كان إينغو فيلبريك محتالًا متسلسلًا ضلل جامعي الأعمال الفنية والمستثمرين والمقرضين بأكثر من 20 مليون دولار".