04 نوفمبر 2024
اختفاء اليسار الإسلامي في تونس
أثار دخول بعض رموز تيار اليسار الإسلامي في تونس المكتب التنفيذي لحركة النهضة ردود أفعال مختلفة داخل الأوساط السياسية، سواء بين أبناء "النهضة" أو اليسار. ربما لا يعرف إلا القليل من المتابعين للشأن التونسي من الخليج أو من المشرق العربي أن "تيارا" فكريا نشأ في تونس، منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، وظلّ يتطور، قبل أن يتراجع بشكل ملحوظ منذ التسعينيات، وكان قد حمل اسماً هلامياً، هو تيار اليسار الإسلامي، على الرغم من أن بعضهم يحبذ اسم الإسلاميين التقدميين أيضاً. وهذا التيار في الأصل مجموعة من الإسلاميين الذين كان بعضهم من مؤسسي الحركة الإسلامية التي ستسمى لاحقاً الاتجاه الإسلامي، قبل أن تغيره لتصبح النهضة. وكان بعض أولئك المؤسسين يحتل مواقع تنظيمية متقدمة، ولكنهم انسلخوا عنها سنتي 1979و1980، على خلفية أسباب تنظيمية، وأخرى فكرية، تدور حول نقد عميق للفكر الإخواني الذي كان مهيمناً آنذاك، على خطاب "النهضة" ورؤيتها للأشياء، ناهيك عن مسائل أخرى، تتعلق بجملة من المواقف الوطنية، على غرار وضع المرأة والتراث الإصلاحي الوطني، فضلا عن مسائل عقدية خالصة، تتعلق بثنائيات الوحي والعقل والتراث.. إلخ. وكان هذا التيار شديد التأثر آنذاك بأطروحات حسن حنفي وأحمد عمارة، وغيرهم من رموز التجديد في الفكر الإسلامي. وقد يكون هذا التيار أيضاً قد شعر بانغلاق التنظيم، وافتقاد المعايير الواضحة في التوزع على هرمه.
لم يكن أفق فكر الحركة الإسلامية، وحتى ثقافتها التنظيمية أو السياسية، يتسع لتلك المبادئ. لذلك، خير بعضهم طرق مسالك أخرى. كان بعض منهم، آنذاك، رموزاً في الحركة الطلابية، وكان آخرون في مواقع العمل، على غرار التدريس، أو غيره من المهن الحرة. ومن هذا الخليط، تشكل تدريجياً هذا التيار، غير أنه لم يتوسّع، وظل نخبوياً ملتفاً حول شعاراتٍ عامة، من قبيل تثوير التراث وجدلية العقل والنقل. ولكنه كان ملتفاً حول أشخاص (حميدة النيفر، صلاح الدين الجورشي، محمد القوماني...)، إذ لم يكن لهذا التيار أي وعاء تنظيمي يجمعه، على غرار جمعيةٍ أو حزبٍ، فلقد كان الجميع، وبدرجاتٍ متفاوتة، تحت طائلة التضييق على الحريات. وربما استفاد هؤلاء من قوسي الانفتاح اللذين أغلقا بسرعة، للحصول على تأشيرة جمعية منتدى الجاحظ (1990) التي تم التضييق على عملها لاحقاً إلى حد كبير، على الرغم من التزامها بالعمل الفكري الخالص، وابتعادها عن المسائل السياسية. وقد استطاعت، وهي تحت الحصار، أن تستدعي رموز الفكر العربي، على تعدّدهم واختلاف مشاربهم. ومع كل ذلك، لم يتسع هذا التيار ليكون حركةً فكريةً واسعة، بل ظل محصوراً في عدد قليل من الأشخاص الذين لم يكتبوا أدبيات أو أطروحات، وجل ما حاولوه تأسيس مجلةٍ فكريةٍ، حملت عنوان 15-21 دلالةً على هذا اللقاء بينهم وزمن الهجرة النبوية وزمن الحداثة الغربية.
ومع ذلك، لعب هذا التيار دوراً مهماً على أكثر من مستوى، فلقد كان، وهو يضايق أطروحات الحركة الإسلامية، وينقدها بشدة وقسوة، تبرمت بها حركة النهضة مراراً، يدفعها الى تجديد خطابها، والتميز تدريجيا عن الخطاب الإخواني، وخصوصا المدرسة المصرية منها. كما أن
درجات التونسة التي أقدمت عليها هذه الحركة مبكراً كانت، في جزء منها، تحت تأثير هذا التيار الذي أصرّ على مصالحة رموز الحركة الصلاحية الوطنية، وخصوصا الطاهر الحداد زعيم التحرر النسوي، أو غيره من رواد التجديد الفكري والاجتماعي. ولعل كتابات الشيخ راشد الغنوشي لم تكن تغفل بيئتها التونسية، سواء ذلك التراث الإصلاحي، أو تلك المؤاخذات التي أبداها اليسار الإسلامي، وجل خصومه من الليبيراليين واليساريين "العلمانيين"، ما أعطى له ولحركته، فيما بعد، تلك الخصوصية التي ما زالت تبحث عن مستندات ومرتكزات أعمق، خصوصا بعد الثورة. كانت فكرة الديمقراطية والتناصف والعمل النقابي إحدى ثمار الحوار الهادئ أحياناً، والمشحون أحياناً أخرى، بين الحركة الإسلامية وأبنائها الذين غادروها من جهة أولى، أو بين الحركة الإسلامية وخصومها من جهة ثانية.
لم تكن لرموز اليسار الإسلامي رؤى فكرية، ولكن كان لهم تبرم وضيق شديد من المنابع الفكرية التي كان يمتح منها خطاب الحركة الإسلامية آنذاك، كما انعكس ذلك على موقفهم من العمل السياسي، والحزبي خصوصاً، فظل عديدون منهم عازفاً عنه، لأسباب عديدة، لعل أهمها منها حالة القمع السياسي الذي عاشته البلاد آنذاك، واستهجان بعضهم الأوعية الحزبية الخانقة، باعتبارها قوالب تستدعي الانضباط والتراتبية، في وقت انتفضت هي عليه تمرداً ورغبةً وتحرّراً، غير أن آخرين انحازوا عن قناعةٍ إلى الاشتغال بـ "الفكر المحض"، على قاعدة التفرغ الذهني للمراجعات الفكرية للعقل العربي، والإسلامي عموماً.
على خلاف هؤلاء، خاض بعضهم أيضاً تجارب مختلفة من التحزب، سواء بعض الثورة أو بعدها، ولعل العضو الحالي للمكتب السياسي لحركة النهضة، محمد القوماني، كان أبرزهم، فبعد انضمامه، عقداً أو أكثر للحزب الديمقراطي التقدمي، أسّس، بعد الثورة، حزب الإصلاح والتنمية، قبل انضمامه، أخيراً، إلى حركة النهضة، من دون أن ننسى بعض رموز هذا التيار التي خيّرت بين النشاط في المجال الإعلامي أو الحقوقي.
لم يستطع تيار اليسار الإسلامي، بعد الثورة، أن يشكل حزباً أو تياراً فاعلاً، بل على خلاف ذلك، تلاشى تقريباً. ومع ذلك، علينا أن نقرّ بأنه قبل أن يختفي، استطاع أن يدفع خطاب حركة الإسلامية في تونس إلى أن يتجدّد، بشكل أو بآخر، وهو أحد الروافد التي أثرت في هذه الحركة، ومنحتها جزءاً من خصوصيتها وتونستها. وقد يكون من عوامل تراجعه، حتى قبل الثورة، تحول شعاراتٍ نادى بها، في بدايات الثمانينيات، إلى قاسم مشترك بين طيف رموز عديدة من الحركة النقدية في الفكر العربي، على غرار محمد عابد الجابري وحسن حنفي وحسين مروة ومحمد عمارة والحاج حمد، إذ تطورت أطروحات بأكملها (غير موحدة ومتباينة) تسعى إلى تطوير الفكر العربي والإسلامي، وتخليصه من جمود التقليد.
لم يكن أفق فكر الحركة الإسلامية، وحتى ثقافتها التنظيمية أو السياسية، يتسع لتلك المبادئ. لذلك، خير بعضهم طرق مسالك أخرى. كان بعض منهم، آنذاك، رموزاً في الحركة الطلابية، وكان آخرون في مواقع العمل، على غرار التدريس، أو غيره من المهن الحرة. ومن هذا الخليط، تشكل تدريجياً هذا التيار، غير أنه لم يتوسّع، وظل نخبوياً ملتفاً حول شعاراتٍ عامة، من قبيل تثوير التراث وجدلية العقل والنقل. ولكنه كان ملتفاً حول أشخاص (حميدة النيفر، صلاح الدين الجورشي، محمد القوماني...)، إذ لم يكن لهذا التيار أي وعاء تنظيمي يجمعه، على غرار جمعيةٍ أو حزبٍ، فلقد كان الجميع، وبدرجاتٍ متفاوتة، تحت طائلة التضييق على الحريات. وربما استفاد هؤلاء من قوسي الانفتاح اللذين أغلقا بسرعة، للحصول على تأشيرة جمعية منتدى الجاحظ (1990) التي تم التضييق على عملها لاحقاً إلى حد كبير، على الرغم من التزامها بالعمل الفكري الخالص، وابتعادها عن المسائل السياسية. وقد استطاعت، وهي تحت الحصار، أن تستدعي رموز الفكر العربي، على تعدّدهم واختلاف مشاربهم. ومع كل ذلك، لم يتسع هذا التيار ليكون حركةً فكريةً واسعة، بل ظل محصوراً في عدد قليل من الأشخاص الذين لم يكتبوا أدبيات أو أطروحات، وجل ما حاولوه تأسيس مجلةٍ فكريةٍ، حملت عنوان 15-21 دلالةً على هذا اللقاء بينهم وزمن الهجرة النبوية وزمن الحداثة الغربية.
ومع ذلك، لعب هذا التيار دوراً مهماً على أكثر من مستوى، فلقد كان، وهو يضايق أطروحات الحركة الإسلامية، وينقدها بشدة وقسوة، تبرمت بها حركة النهضة مراراً، يدفعها الى تجديد خطابها، والتميز تدريجيا عن الخطاب الإخواني، وخصوصا المدرسة المصرية منها. كما أن
لم تكن لرموز اليسار الإسلامي رؤى فكرية، ولكن كان لهم تبرم وضيق شديد من المنابع الفكرية التي كان يمتح منها خطاب الحركة الإسلامية آنذاك، كما انعكس ذلك على موقفهم من العمل السياسي، والحزبي خصوصاً، فظل عديدون منهم عازفاً عنه، لأسباب عديدة، لعل أهمها منها حالة القمع السياسي الذي عاشته البلاد آنذاك، واستهجان بعضهم الأوعية الحزبية الخانقة، باعتبارها قوالب تستدعي الانضباط والتراتبية، في وقت انتفضت هي عليه تمرداً ورغبةً وتحرّراً، غير أن آخرين انحازوا عن قناعةٍ إلى الاشتغال بـ "الفكر المحض"، على قاعدة التفرغ الذهني للمراجعات الفكرية للعقل العربي، والإسلامي عموماً.
على خلاف هؤلاء، خاض بعضهم أيضاً تجارب مختلفة من التحزب، سواء بعض الثورة أو بعدها، ولعل العضو الحالي للمكتب السياسي لحركة النهضة، محمد القوماني، كان أبرزهم، فبعد انضمامه، عقداً أو أكثر للحزب الديمقراطي التقدمي، أسّس، بعد الثورة، حزب الإصلاح والتنمية، قبل انضمامه، أخيراً، إلى حركة النهضة، من دون أن ننسى بعض رموز هذا التيار التي خيّرت بين النشاط في المجال الإعلامي أو الحقوقي.
لم يستطع تيار اليسار الإسلامي، بعد الثورة، أن يشكل حزباً أو تياراً فاعلاً، بل على خلاف ذلك، تلاشى تقريباً. ومع ذلك، علينا أن نقرّ بأنه قبل أن يختفي، استطاع أن يدفع خطاب حركة الإسلامية في تونس إلى أن يتجدّد، بشكل أو بآخر، وهو أحد الروافد التي أثرت في هذه الحركة، ومنحتها جزءاً من خصوصيتها وتونستها. وقد يكون من عوامل تراجعه، حتى قبل الثورة، تحول شعاراتٍ نادى بها، في بدايات الثمانينيات، إلى قاسم مشترك بين طيف رموز عديدة من الحركة النقدية في الفكر العربي، على غرار محمد عابد الجابري وحسن حنفي وحسين مروة ومحمد عمارة والحاج حمد، إذ تطورت أطروحات بأكملها (غير موحدة ومتباينة) تسعى إلى تطوير الفكر العربي والإسلامي، وتخليصه من جمود التقليد.