ازدادت جرعة الرعب في حلقات المسلسل المشؤوم الذي يحمل عنوان "انهيار الاقتصاد اللبناني غير المسبوق" والذي أخذ منعطفاً خطيراً في أحداثه المتسارعة بعد تفجير مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020 وأطلق بدوره جميع صفّارات الإنذار لبداية تصدُّع حكومة حسّان دياب بداية باستقالة وزراء الإعلام والبيئة والعدل.
وعلى إثر ذلك سُحب بساط دور البطولة من تحت أقدام تلك الحكومة التي استقالت يوم 10 أغسطس/آب 2020 رضوخاً لضغط الشارع، ولم تُفلح قبلها في الخروج من نفق المأزق المالي والاقتصادي وباتت مطلوبة للمحاسبة العسيرة التي لا تستثني أحداً من المسؤولين تحت شعارات "علِّقوا المشانق" و"يوم الحساب".
وعند النظر من زاوية أخرى إلى توقيت حصول تلك الأحداث وترتيبها تتبادر فوراً إلى الأذهان تلك الأدوار التي يقوم بها كل من مخرج وكاتب سيناريو هذا المسلسل اللذين يفعلان ما بوسعهما حتى يُهزم حزب الله وتنتصر إسرائيل وفرنسا وأميركا في الحلقة الأخيرة.
نجح سيناريست هذا المسلسل في استغلال اللحظات التي يحتضر فيها الاقتصاد اللبناني والوضع المالي المزري في افتعال تفجير المرفأ، الذي يقع في القلب النابض للعاصمة ويعتبر شريانها الرئيسي الذي يوصلها بالعالم الخارجي (مع 300 ميناء عالمي بإجمالي إيرادات بلغت نحو 200 مليون دولار سنة 2019 مقارنة بـ 313 مليون دولار سنة 2018)، ملبساً بذلك التهمة لحزب الله بهدف اجتثاثه من جذوره في كافة المشاهد المتبقية من أجل إخلاء الساحة للثلاثي إسرائيل، فرنسا وأميركا في تسيير لبنان على النحو الذي يخدم مصالحها.
وبالرغم من غياب أدلة دامغة وقرائن قوية تثبت تورُّط حزب الله في هذا التفجير، الذي أحدث جروحاً وتشوُّهات عميقة في بيروت، إلاَّ أنّ هذا السيناريست لا يزال مصرّاً على إقصاء الحزب مقابل كتابة حلقات تحمل في جعبتها ولو جزءًا بسيطاً من الانتعاش للاقتصاد اللبناني الذي يمكن أن يتحقَّق بتضافر جهود صندوق النقد والبنك الدوليين ومانحين دوليين آخرين، أي نفس المانحين الذين وعدوا سابقاً بتقديم مساعدات مالية يصل مقدارها إلى 11 مليار دولار خلال مؤتمر باريس في إبريل/نيسان 2018، كمحاولة لانتشال ذلك الاقتصاد من القعر الذي هبط إليه بفعل المتحكِّمين فيه، والخوف من وصول تلك المنح والقروض إلى يد حزب الله، هو الذي بتر كرم المانحين الدوليين الذين وافقوا سابقاً على دعم لبنان الذي يستضيف عدداً كبيراً من اللاجئين السوريين، ويبدو أنّهم غيَّروا رأيهم بفعل إصرار السيناريست ليساعدوا لبنان الذي أصبح موجوعاً بشكل أكبر نتيجة للتفجير الذي خلَّف 172 قتيلاً وأكثر من 6 آلاف جريح، ومئات المفقودين، ونحو 300 ألف مشرّد، فقد لعب السيناريست على الوتر الحسّاس للمانحين وأقنعهم أنّه كلما كانت الجروح أعمق، كان الخضوع أضمن والتنازل أسهل.
وبراعة مخرج هذا المسلسل لا تقلّ أبداً عن حنكة كاتبه، فقد أبدع المخرج لمّا جاء بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في شوارع بيروت التي هشَّمها الانفجار وأحسن اختيار أماكن وزوايا التصوير وضبط التفاف الشعب اللبناني الجريح حول الرئيس الفرنسي داخل كادر "وصول المنقذ والمخلِّص" واستغلّ المؤثرات الصوتية النابعة من الحناجر اللبنانية التي طفح بها الكيل وأنهكها الفساد ودفعها لترديد هتافات ودعوات بعودة الانتداب الفرنسي.
علماً أنّ ماكرون الذي نصَّب نفسه "العرّاب" لتخليص الاقتصاد اللبناني ويلفظ أنفاسه الأخيرة من المسؤولين الفاسدين هو نفسه الرئيس الذي ثارت بسببه الشوارع الفرنسية وجاءت في عهدته احتجاجات "السترات الصفراء" التي تمخَّضت عنها سياساته الضيِّقة، فكيف يمكن لرئيس أن ينجح في أن يكون طوق نجاةٍ لبلد ينازع على الجبهات كافة بعدما أثبت فشله داخلياً في إخماد لهيب غضب السترات الصفراء، وخارجياً في التحكُّم بالملف الليبي وقيادة القارة العجوز وتعزيز حلف الشمال الأطلسي "ناتو"، بل على العكس من ذلك انتقده وشخَّص حالته بأنّه "ميت دماغياً".
لقد استغلّ مخرج مسلسل "انهيار الاقتصاد اللبناني غير المسبوق" تأرجح أحاسيس الشعب اللبناني ما بين الإحباط والضياع والذهول والغصّة، وأقحم الرئيس ماكرون في أهمّ مشهد من مشاهد اشتداد الخناق على اللبنانيين الذين ضاقت بهم السبل، وبطبيعة الحال أظهر ماكرون موهبته في حشد الدعم الدولي ونظَّم مؤتمراً خاصّاً يوم 9 أغسطس/آب 2020 بالشراكة مع الأمم المتحدة، وتمكَّن من الحصول على تعهُّد المشاركين في المؤتمر بتقديم 298 مليون دولار شاملة مساعدات متواضعة قدرها 35 مليون دولار من الحكومة الفرنسية، ومساعدات أخرى من بينها 50 مليون دولار من قطر، 41 مليون دولار من الكويت، 26 مليون دولار من بريطانيا، و10 ملايين دولار من ألمانيا.
كما أعلن الاتحاد الأوروبي عن تقديمه دعماً إضافياً للبنان بقيمة 30 مليون يورو، وسيتم تقديم هذه المساعدات باشتراط تطبيق الإجراءات والإصلاحات التي يطالب بها الشعب اللبناني ومن دون اشتراط إصلاحات سياسية أو مؤسساتية في المدى القصير بهدف تقديم الإغاثة المستعجلة التي لا تحتمل التأجيل، على أن يكون ذلك تحت إشراف الأمم المتحدة وبعيداً عن متناول المسؤولين الفاسدين لضمان الشفافية والكفاءة وسرعة الاستجابة ووصول المساعدات إلى مستحقيها الفعليين.
وبغضّ النظر عن دهاء كاتب هذا المسلسل ومخرجه، يمكن للمتفرِّج أن يلاحظ أنّ هرولة الرئيس الفرنسي لاقتحام الظرف اللبناني العصيب إنسانياً وسياسياً واقتصادياً ليس سوى رسالة واضحة وصريحة مفادها أنّ التمويل الدولي الذي كان محظوراً سابقاً على لبنان بأوامر عليا من المتحكِّمين بالمانحين الدوليين سيُقدَّم بالتقسيط المميت للبنانيين وفقاً لحزمة من الشروط أوّلها التخلُّص من حزب الله وتسليم التسيير الفعلي والباطني للبنان إلى القوى العظمى التي تحرِّك كلاً من كاتب سيناريو هذا المسلسل ومخرجه.
خلاصة القول، إنّ مصالح القوى العظمى تستدعي دائماً الاستعانة بكتّاب ومخرجين لمسلسلات الصراعات الدامية والانهيارات الاقتصادية والانقسامات السياسية والنزاعات الطائفية، وبناءً على سلسلة الثورات العربية التي أُشعل فتيلها عام 2011 يمكن الاستنتاج أنّ أعين القوى العظمى تُخيِّر لبنان الآن ما بين اقتلاع حزب الله الذي لا يُقلع، وحرب أهلية سنابلها فارغة من الازدهار ومملوءة بالخراب ولا طائل منها سوى الدمار.