استقلال شكلي مهدد بالزوال
يزعم تنظيم القاعدة، والجماعات التي تفرعت عنه، أن من أهدافها رفع وصاية الغرب على الشعوب الإسلامية، وذلك بحرب مفتوحة لا تستثني أحداً، ما تجلى بوضوح أكبر مع تنظيم الدولة الإسلامية. وهناك، اليوم، حاجة لمعرفة ما إذا اقتربت هذه الشعوب، بعد هذه السنوات الطويلة من العنف والقتل، من تحقيق هذا الهدف، أم العكس هو الأصح؟ وإذا ما أخذنا أفغانستان، مثالاً، وتساءلنا هل تمكن الشعب الأفغاني من بلوغ هذا الهدف الذي يبقى هدفاً نبيلاً من حيث المبدأ؟
تقول الحقيقة الموضوعية إن أفغانستان، منذ مغادرة القاعدة جبال تورا بورا، وخروج أنصار الملا عمر من كابول، والبلاد تخضع لوصاية مباشرة للولايات المتحدة التي تتولى وضع السياسات، وتمويل كل صغيرة وكبيرة في المناطق التي تقع خارج سلطة "طالبان". ولو انتقلنا من أفغانستان إلى سورية، فإن دخول هذه التنظيمات على خط الثورة السورية أربك الحالة السورية بالكامل، ووفر فرصة لنظام الأسد ليحصل على الدعم، بمختلف أشكاله، من إيران وحزب الله، وأصبح، اليوم، جزءاً من صانعي السياسات داخل الولايات المتحدة الأميركية، وكذلك معظم الحكومات الأوروبية يعتقدون أن الأسد جزء من الحل، وليس هو المشكلة، وأنه يبقى، في النهاية، أفضل من أن تسيطر داعش على سورية الغد. واليوم، ليس مستقبل سورية بأيدي أبنائها، وإنما بأيدي القوى الإقليمية والدولية التي تقف وراء التمويل وإطالة النزاع.
كذلك الشأن بالنسبة للعراق الذي يتواصل نزيفه بشكل خطير، وهو ما جعل النظام العراقي يبقى ممسوكا من إيران والولايات المتحدة، إلى جانب الأوروبيين الذين يبررون تدخلاتهم بأنهم حماة للأقليات، وفي مقدمتها الأقلية المسيحية التي تواجه سياسة تطهير فظيعة، وغير مسبوقة.
في ليبيا، أصبح التدخل الإقليمي والدولي شديد الوضوح، ومرشحاً ليأخذ شكل التدخل المباشر، بعد أن أصبحت لداعش أرض وأنصار ومال وسلاح. وقد تتجه الحرب الأهلية إلى حرب الكل ضد الكل، ما سيضع البلاد أمام حالة تفتت قصوى، تعيدها إلى أكثر من مائة سنة خلت. وتأتي الحالة التونسية مثالاً أخيراً نسوقه في هذا الاتجاه. فالتونسيون، اليوم، أصبحوا يخشون حقاً على استقلالهم السياسي والاقتصادي. فالحرب على الإرهاب التي تخوضها تونس لم تعد تهدد فقط مسارها الانتقالي من الاستبداد إلى الديمقراطية القائمة على سيادة الشعب، وإنما هناك، اليوم، خطر حقيقي على الهامش الذي يمكن أن تتمتع به لحماية استقلالية قرارها. فتونس أصبحت في حاجةٍ للبحث عن مصادر نادرة، لتعزيز نفقاتها العسكرية وضرورة شرائها المعدات الأمنية المتنوعة وباهظة الثمن. وانخراطها القسري والمتزايد في أسواق السلاح العالمية، سيجعلها تخضع، بالضرورة، لشروط تجار الأسلحة والحروب، وسيكون ذلك على حساب الميزانيات المخصصة للتنمية، ما سيزيد من إرباك الحالة المالية للدولة، ويضاعف من معاناة ذوي الدخل المحدود وأبناء الطبقة الوسطى. وكلما اتسعت رقعة المواجهات مع هذه الجماعات، بمختلف أسمائها وعناوينها، تعاظمت الكلفة، وتعززت هشاشة الدولة، ما سيؤثر بالضرورة على قدراتها على التفاوض وحماية الحد الأدنى من استقلالية القرار. وما يخشى أن تتم هذه التنازلات الضرورية للقوى الدولية المهيمنة بموافقة غالبية التونسيين الذي سيزداد خوفهم من أن يكون مصيرهم شبيهاً بمصير السوريين أو العراقيين أو الليبيين أو اليمنيين.
لا ندري هل تعي هذه الجماعات بخطورة اللعبة التي دخلتها، أم لا، لكن المؤكد أنها بصدد إدخال المنطقة في حالة من الفوضى التي تستفيد منها بشكل مؤقت، لكنها، بالتأكيد، لن تكون قادرة على الاستمرار فيها لاعتبارات كثيرة، من أهمها انخرام موازين القوى، وانسداد الأفق. تتجه المنطقة نحو وصاية دولية جديدة، تتخذ من الحرب على الإرهاب عنواناً لها، والخاسر الأكبر في هذه اللعبة الجهنمية الشعوب العربية والإسلامية التي تزعم هذه الجماعات "تحريرها" من براثن الهيمنة الغربية.