ليس الظرف مناسباً لتصفية الحسابات

27 أكتوبر 2024
+ الخط -

ما أكثر الألغام المدفونة في ذاكرة شعوب الشرق الأوسط! وما يُخشى، أن تصبح تداعيات الحرب الجارية فرصةً لانفجار ألغام عديدة في وجوه الجميع، فتتعمّق الجراح القديمة والجديدة. لهذا، يحاول بعضهم كبت هذه الأحقاد، قبل أن تحتدَّ فتحرق الأخضر واليابس، وتزيد من اتساع الحريق.
من هؤلاء برهان غليون، الذي عرفته في سياق محطّات متعاقبة، قبل أن يتحمّل مسؤولية رئاسة المجلس الوطني السوري المُعارِض، وبعد تجاوز تلك التجربة الصعبة التي مرّ بها. والرجل عرفته معتدلاً، ومحافظاً على بوصلته الفكرية، وعلى خلفيته الحقوقية. كتبَ مقالاً تحت عنوان "حتى لا نفقد إنسانيتنا" (موقع تلفزيون سوريا، 22/ 10/ 2024)، توجّه فيه إلى بعض المُعارِضين السوريين، الذين أثارتهم كلمة "عزاء" في حقّ الشهيد يحيى السنوار. واعتبر غليون أن المسألة بالنسبة إليه "قضية أخلاق وأدب وتعامل إنساني قبل أن تكون قضيةً إنسانيةً، ودفاعاً عن إنسانيتنا وخشيةً من هدرها على مذبح الشماتة والانتقام". ويشير في هذا السياق إلى موقف حركة حماس من النظام السوري، الذي انتقل من القطيعة إلى التعاون، وهو ما اعتبرته المُعارَضة السورية مساندةً للنظام على حسابها. لكنّ برهان يضيف، في هذا السياق، أن المقاومة الفلسطينية "لم ترتكب ما فعله حزب الله"، المتّهم بالمشاركة في "القضاء على الثورة السورية". وهذا ملفّ معقّد يهمّ السوريين بالأساس، وستبقى تداعياته مستمرّةً إلى أن تتوافر الظروف والشروط المساعدة في تفكيكه وتحويله جزءاً من تركة الماضي. المهم في ما ذكره غليون "ألا نضيع البوصلة في تحديد المشكلة الرئيسية، وهي وجود إسرائيل وشروط تأمينها، والوظيفة التي تقوم بها".
واعتبر الزميل والصديق، فهمي هويدي، أن الصراع الدائر اليوم أدّى عملياً إلى "انصهار المذاهب، ولم يبقَ لنا سوى مذهبين، فإمّا أن تكون مقاوماً أو تكون صهيونياً، وكفى". لا يقصد الرجل التبشير بانتهاء المذاهب، الفقهية أو الفرق الإسلامية، فتلك قصّة أخرى. وإنما القصد من إشارته هذه "أن تكون مقاوماً أو أن تكون صهيونيًا" ("الجزيرة نت"، 7 /10/ 2024)، أن المعركة المصيرية الدائرة حالياً هي ضدّ الصهيونية كياناً توسّعياً، وتفرض على العرب تأجيل خلافاتهم الدينية والسياسية، وتجميع جهودهم ضدّ هذا الإعصار الذي يهدف إلى اقتلاع الجميع من جذورهم.
يُعدّ دور حزب الله في سورية من المسائل الحارقة التي دارت بسببها خلافات حادّة بين المعنيين بالملفّ السوري اللبناني. مع أهمّية ذلك، يجب إعادة ترتيب الأولويات بمنهجية جديدة تراعي بالأساس مصلحة الأمة، فحسم الصراع السنّي الشيعي ليس الآن مجاله، بحكم أبعاده التاريخية والعقائدية. الجميع مُستهدَفون في وجودهم، وفي مصالحهم. لا أحد خارج خطوط النار، ولن تكون أيّ دولة أو طائفة في المستقبل غير معنية بتداعيات التغييرات الاستراتيجية التي تنويها تلّ أبيب في حال نجاحها في إخضاع الضفة الغربية وإعادة احتلال غزّة.
لهذا السبب بالذات، توجد أجهزة إسرائيلية متخصّصة في بثّ الفرقة، واستغلال الخلافات القديمة والحديثة القائمة، سواء بين الدول أو بين الطوائف أو الأحزاب أو الجهات، أو داخل كلّ فريق سياسي وديني. وتعمل هذه الأجهزة في ظلّ الاحتقان الحاصل من أجل تغذيتها وتعميقها وتوظيفها خدمةً لمصالحها ومخطّطاتها، عبر مختلف الوسائل والمنصّات والمواقع.
يفرض هذا الهجوم الصهيوني الكاسح حدّاً أدنى من الوعي بخطورته وتداعياته، ومن دون التقليل من أهمية الأخطار والتقديرات السياسية الخاطئة لهذا الطرف أو ذاك، التي سيأتي الوقت المناسب لتقييمها، ولا بدّ أن يكون الجميع على استعداد لممارسة النقد الذاتي بجدّية ومسؤولية، لكن لا التوقيت ولا الظرف مناسبان للقيام بذلك الآن. إذ يُخشى أن يؤدّي ذلك إلى الانخراط في استراتيجية العدو، وتكون نتيجة هذا المنزلق الخطير تقديم خدمة مجّانية للآلة الصهيونية الجهنَّمية، التي تحصد الأرواح في كلّ اتجاه. ومن تستثنيه المحرقة تؤجّل القضاء عليه إلى مرحلة موالية. فاحذر من أن تكون جزءاً من الخطّة وأنت تظن أنك تُحسن صنعاً.

266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس