06 نوفمبر 2024
استيقاظ النزعات الانفصالية
في اللحظة نفسها، استيقظت النزعات الانفصالية في كل من كردستان العراق وإقليم كتالونيا في إسبانيا، في سابقة لم يشهدها العالم من قبل، وكأن الأمر يتعلق باتفاق مبرمج. وعلى الرغم من البعد الجغرافي واختلاف أسباب الانفصال ونوازعه في كلا المنطقتين، إلا أن تزامنهما جعل نزعة الانفصال تبدو كأنها ظاهرة عالمية تستيقظ من جديد، في زمن لم يعد يوجد فيه مكان سوى للكيانات الكبيرة القادرة على إثبات تفوقها والدفاع عن مصالحها بقوة وحدتها وتلاحم صفوفها.
والنزعات الانفصالية ليست وليدة اليوم، فقد عرفها التاريخ على مر العصور. وفي وقتنا المعاصر، تنامت بعد انتهاء الحرب العالمية الباردة نهاية ثمانينيات القرن الماضي، إعلانا عالميا عن موت الإيديولوجيات السياسية المستقبلية، وعودة الحياة للإيديولوجيات التاريخية الماضوية التي تبحث عن ذاتها في الهوية والدين والعرق. لذلك لم يكن غريبا آنذاك أن تنفجر النزعات الانفصالية في المناطق التي كانت محسوبةً على ما كان يسمى "المعسكر الشرقي" الذي كانت فيه الإيديولوجيا السياسية حاضرة بقوة، بل وطاغية بطريقة مهيمنة، ما سارع في انفجار تلك النزعات في عدة أماكن آنذاك، خصوصا في منطقة البلقان ودول ما كان يسمى المعسكر الشرقي، نتيجة ظروف تاريخية عاشتها تلك المنطقة، ولكن أيضا جوابا على القهر الذي عانت منه شعوبها تحت هيمنة الإيديولوجيا السياسية الجبرية.
وبعد فترة ما يمكن تسميتها نزعة الانفصال الإيديولوجي، أي المبنية على إيديولوجيا الهوية، أو التي فرضها الهروب من هيمنة الإيديولوجيا السياسية، ستظهر موجة جديدة من النزعات
الانفصالية، وهذه المرة بدوافع سياسية، أو عرقية، أو دينية، جعلت من الدفاع عن حقوق الأقليات المضطهدة شعارا لها، لتحقيق أهدافها، كما حصل في كوسوفو وتيمور الشرقية وجنوب السودان، قبل أن نصل إلى الموضة الجديدة من الانفصال التي تقوم على أسباب اقتصادية محضة، وهذه ظهرت في أوروبا منذ الأزمة المالية، بداية عام 2008، ومازالت مستمرة، وتجد لها صدى كبيرا في عدة مناطق في أوروبا، بسبب سياسات التقشّف التي فرضها الاتحاد الأوروبي على الدول الأكثر تأثرا بالأزمة المالية، أو فرضتها الحكومات على نفسها، كما هو الشأن في إسبانيا التي ظهرت فيها حركة انفصالية في منطقة كتالونيا الغنية، وهي لا تختلف في نوازعها عن الموجودة في منطقة كيبيك في كندا واسكتلندا في المملكة المتحدة، وإلى حد ما في كردستان العراق.
ففي كل هذه المناطق، لم يعد فقط الشعور بالاضطهاد أو مجرد الرغبة في إشباع تضخم الحس القومي الهوياتي عند شعوبها هو محرّك نوازع الانفصال عندها، وإنما تدخّل العامل الاقتصادي موجها ومحفزا لترويج النزعة الانفصالية، على الرغم مما قد يحمله من مغالطات كبيرة، بما أنه عامل متغير، فالمناطق التي تعتبر نفسها اليوم غنية، بفضل ثرواتها أو نشاط سكانها، قد لا تستمر كذلك عندما تستقل بذاتها.
وبالإضافة إلى كل هذه العوامل التاريخية والسياسية والاقتصادية، هناك عوامل أخرى تحفز النزعات الانفصالية، تأتي قبل عامل التنوع أو الاختلاف بسبب العرق أو الدين أو اللغة، في مقدمة هذه العوامل غياب الديمقراطية، وفشل دولة القانون والمؤسسات، وعدم وجود عدالة اجتماعية واقتصادية. لذلك تبرز هذه النزعات بقوة كنتوءات في ظل الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تمر بها الدول، وتجعل بعض مناطقها أو سكانها يشعرون بالإهمال أو التهميش أو الاستغلال والتحكّم من طرف المركز (حالة العراق بسبب الأزمة السياسية، وحالة إسبانيا بسبب الأزمة الاقتصادية). بل باتت الأسباب الاقتصادية اليوم تستعمل ليس فقط محفزا على الانفصال، وإنما عاملا للابتزاز، للحصول على نوع من الاستقلال المالي، أو على مزيد من الدعم من المركز أو بدافع الهروب من الضرائب، والتملص من واجب التضامن الذي يفترض دعم المناطق المجاورة، داخل الدولة نفسها، الأقل نموا وازدهارا.
ثمة اليوم في العالم أكثر من نزعة انفصالية "نائمة" لأسباب مختلفة ومتنوعة، وهي مثل البراكين الخامدة نجدها في القارة العجوز (في بريطانيا وإسبانيا وبلجيكا وإيطاليا والنمسا وأوكرانيا ومنطقة القوقاز)، وفي أميركا الشمالية (كاليفورنيا) وفي كندا (الكيبيك)، وفي آسيا وافريقيا، وفي أكثر من دولة ومنطقة عبر العالم. وعند كل أصحاب هذه النزعات الانفصالية، يتم التشبث بمبدأ كوني، وهو مبدأ تقرير المصير الذي لا يمكن لأية شريعة أو قانون أن يمنع الناس من ممارسته حقا أساسيا من حقوقها، لكنه أحيانا يستعمل حقا يراد به تلبية نزعات شوفينية ضيقة.
أثبتت تجارب الانفصال التي شهدها العالم فشلها في تيمور الشرقية وفي جنوب السودان وفي كوسوفو. وفي المقابل، فإن الحاجة إلى تقوية الكيانات الإقليمية الكبرى المتعددة الأجناس والأديان مثل الصين والهند (كلاهما لا تخلوان من نزعات انفصالية) والبرازيل، وبناء التجمعات الاقتصادية الكبرى الإقليمية والدولية، مثل الاتحاد الأوروبي، القائمة على أساس المصالح المشتركة والتجارة الحرة وحرية المبادرة، ما تزال عوامل جاذبة للدول والشعوب التواقة إلى العيش داخل مجتمعاتٍ متقدمةٍ ومتطورةٍ ومتنوعةٍ ومتعددة. ولكن أيضا وأسسا ديمقراطية يحتكم فيها الناس إلى القوانين والمؤسسات، حتى لا يضطرون إلى اللجوء للاحتماء بالهويات الضيقة والعرقيات المريضة، والبحث عن الخلاص في الإيديولوجيات القاتلة.
والنزعات الانفصالية ليست وليدة اليوم، فقد عرفها التاريخ على مر العصور. وفي وقتنا المعاصر، تنامت بعد انتهاء الحرب العالمية الباردة نهاية ثمانينيات القرن الماضي، إعلانا عالميا عن موت الإيديولوجيات السياسية المستقبلية، وعودة الحياة للإيديولوجيات التاريخية الماضوية التي تبحث عن ذاتها في الهوية والدين والعرق. لذلك لم يكن غريبا آنذاك أن تنفجر النزعات الانفصالية في المناطق التي كانت محسوبةً على ما كان يسمى "المعسكر الشرقي" الذي كانت فيه الإيديولوجيا السياسية حاضرة بقوة، بل وطاغية بطريقة مهيمنة، ما سارع في انفجار تلك النزعات في عدة أماكن آنذاك، خصوصا في منطقة البلقان ودول ما كان يسمى المعسكر الشرقي، نتيجة ظروف تاريخية عاشتها تلك المنطقة، ولكن أيضا جوابا على القهر الذي عانت منه شعوبها تحت هيمنة الإيديولوجيا السياسية الجبرية.
وبعد فترة ما يمكن تسميتها نزعة الانفصال الإيديولوجي، أي المبنية على إيديولوجيا الهوية، أو التي فرضها الهروب من هيمنة الإيديولوجيا السياسية، ستظهر موجة جديدة من النزعات
ففي كل هذه المناطق، لم يعد فقط الشعور بالاضطهاد أو مجرد الرغبة في إشباع تضخم الحس القومي الهوياتي عند شعوبها هو محرّك نوازع الانفصال عندها، وإنما تدخّل العامل الاقتصادي موجها ومحفزا لترويج النزعة الانفصالية، على الرغم مما قد يحمله من مغالطات كبيرة، بما أنه عامل متغير، فالمناطق التي تعتبر نفسها اليوم غنية، بفضل ثرواتها أو نشاط سكانها، قد لا تستمر كذلك عندما تستقل بذاتها.
وبالإضافة إلى كل هذه العوامل التاريخية والسياسية والاقتصادية، هناك عوامل أخرى تحفز النزعات الانفصالية، تأتي قبل عامل التنوع أو الاختلاف بسبب العرق أو الدين أو اللغة، في مقدمة هذه العوامل غياب الديمقراطية، وفشل دولة القانون والمؤسسات، وعدم وجود عدالة اجتماعية واقتصادية. لذلك تبرز هذه النزعات بقوة كنتوءات في ظل الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تمر بها الدول، وتجعل بعض مناطقها أو سكانها يشعرون بالإهمال أو التهميش أو الاستغلال والتحكّم من طرف المركز (حالة العراق بسبب الأزمة السياسية، وحالة إسبانيا بسبب الأزمة الاقتصادية). بل باتت الأسباب الاقتصادية اليوم تستعمل ليس فقط محفزا على الانفصال، وإنما عاملا للابتزاز، للحصول على نوع من الاستقلال المالي، أو على مزيد من الدعم من المركز أو بدافع الهروب من الضرائب، والتملص من واجب التضامن الذي يفترض دعم المناطق المجاورة، داخل الدولة نفسها، الأقل نموا وازدهارا.
ثمة اليوم في العالم أكثر من نزعة انفصالية "نائمة" لأسباب مختلفة ومتنوعة، وهي مثل البراكين الخامدة نجدها في القارة العجوز (في بريطانيا وإسبانيا وبلجيكا وإيطاليا والنمسا وأوكرانيا ومنطقة القوقاز)، وفي أميركا الشمالية (كاليفورنيا) وفي كندا (الكيبيك)، وفي آسيا وافريقيا، وفي أكثر من دولة ومنطقة عبر العالم. وعند كل أصحاب هذه النزعات الانفصالية، يتم التشبث بمبدأ كوني، وهو مبدأ تقرير المصير الذي لا يمكن لأية شريعة أو قانون أن يمنع الناس من ممارسته حقا أساسيا من حقوقها، لكنه أحيانا يستعمل حقا يراد به تلبية نزعات شوفينية ضيقة.
أثبتت تجارب الانفصال التي شهدها العالم فشلها في تيمور الشرقية وفي جنوب السودان وفي كوسوفو. وفي المقابل، فإن الحاجة إلى تقوية الكيانات الإقليمية الكبرى المتعددة الأجناس والأديان مثل الصين والهند (كلاهما لا تخلوان من نزعات انفصالية) والبرازيل، وبناء التجمعات الاقتصادية الكبرى الإقليمية والدولية، مثل الاتحاد الأوروبي، القائمة على أساس المصالح المشتركة والتجارة الحرة وحرية المبادرة، ما تزال عوامل جاذبة للدول والشعوب التواقة إلى العيش داخل مجتمعاتٍ متقدمةٍ ومتطورةٍ ومتنوعةٍ ومتعددة. ولكن أيضا وأسسا ديمقراطية يحتكم فيها الناس إلى القوانين والمؤسسات، حتى لا يضطرون إلى اللجوء للاحتماء بالهويات الضيقة والعرقيات المريضة، والبحث عن الخلاص في الإيديولوجيات القاتلة.