اتسعت دوائر الفقر خلال السنوات الخمس الأخيرة، في العديد من البلدان العربية، خاصة دول الربيع العربي (مصر، سورية، اليمن، ليبيا وتونس)، نتيجة الاضطرابات السياسية التي جعلت الأمن في مقدمة أولويات أغلب الدول، على حساب السياسات التنموية التي تمكّن من مكافحة الفقر.
ولما كانت ليبيا تتمتع باحتياطيات نقد أجنبي مريحة، مكّنتها من استمرار الإنفاق السخي طوال الأعوام الخمسة الماضية، فقد حال ذلك دون سقوط أعداد هائلة من المجتمع في براثن الفقر المدقع، بينما سحبت الأوضاع المتأزمة في اليمن ومصر وسورية وتونس، قطاعا عريضا من الطبقات المتوسطة إلى دوائر الفقراء، بفعل الاضطرابات السياسية والأمنية في مصر وتونس، والحرب في سورية واليمن.
وفيما يتجاوز عدد سكان الوطن العربي 350 مليون شخص، لا يتعدى إجمالي الناتج المحلي للدولة العربية مجتمعة 1.49 ترليون دولار، وذلك وفق تقديرات البنك الدولي عن عام 2013، ما يعني أن نصيب الفرد العربي من هذا الناتج لا يتعدى 3500 دولار سنويا، تلك معدلات تضع أغلبية السكان ضمن الحدود الفقيرة عالميا.
ويفرّق البنك الدولي بين نوعين من الفقر، أحدهما الفقر المدقع، وهو الذي يستوعب الفئة التي يقل دخل الفرد فيها عن دولار واحد يوميا، وهؤلاء يتجاوز عددهم 900 مليون شخص على مستوى العالم، أما النوع الآخر، فهم الفقراء المحرومون، وهؤلاء يقبعون في دائرة تتسع لنحو مليارين ونصف المليار شخص عالميا، يعيشون على دخل يومي يتراوح بين 1.25 إلى 4 دولارات يوميا.
ولأن الفقر أكثر الظواهر الاجتماعية تأثرا بالأوضاع التي تعيشها البلدان العربية من صراعات وتجاذبات وحروب، فإن أكثر الدول فقرا هي تلك التي تتطور فيها الخلافات من مجرد نزاعات سياسية إلى أكثر من صراع دموي.
وتصنف البلدان العربية ذات الثقل السكاني في مرتبة متأخرة من حيث التنمية البشرية بين دول العالم الـ 177، وفق تقارير دولية، وتشير دراسات معاصرة إلى انهيار الطبقة الوسطى العربية التي شكلت شريحة أساسية في المجتمعات العربية على مدار عقود، ما أدى إلى تراكم الفقراء في أحزمة البؤس المحيطة بالمدن العربية التي باتت تشكل أكثر من 56% من العرب، فضلا عن تفاقم الهوة بين الأغنياء والفقراء منذ الثمانينيات، بسبب تراجع أغلب الحكومات عن بعض القطاعات العامة ضعف الرقابة على السوق الحرة.
مصر: 40%
لا تزال التقديرات الرسمية تحتفظ بنسبة الفقراء في مصر عند مستوى 26% من السكان، رغم أن ثمة تقديرات أممية تقول إن النسبة تطورت إلى أكثر من 40% من السكان، بما يعادل نحو 35 مليون شخص.
لكنّ مسؤولاً حكومياً في وزارة التخطيط قال لمراسل "العربي الجديد" في القاهرة، إن مؤشرات الفقر خلال العام الجاري سترتفع إلى نحو 28% من سكان مصر، مقابل 26% بنهاية العام الماضي. وأضاف المسؤول أن مؤشرات الفقر ارتفعت في المحافظات الجنوبية (صعيد مصر) خلال العام الجاري إلى 60% من سكان تلك المحافظات مقابل 50% خلال العام الماضي.
ويقول مراقبون إن مؤشرات الفقر في مصر قفزت لمستويات تاريخية عقب ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، بفعل انهيار قطاعات اقتصادية مهمة مثل السياحة التي كانت تمثل أكثر من 13% من إجمالي الناتج المحلي للبلاد وتستوعب نحو ثلاثة ملايين عامل بشكل مباشر وغير مباشر، فضلا عن تسريح مئات آلاف العمالة نتيجة إغلاق ما يربو على خمسة آلاف مصنع، وفق تقديرات اتحات الصناعات.
ويرى المسؤول أن سياسات الحكومات السابقة في توزيع نفقات الموازنة هي السبب الرئيس في نمو الفقر بمصر لهذه الدرجة، مستدركا أن وزارة التضامن الاجتماعي تعمل حاليا، على إنجاز خريطة مدققة للفقراء في مصر للتعامل مع الأزمة.
غير أن ثمة عوامل أخرى ترصدها تقارير دولية، تقف وراء ارتفاع أعداد الفقراء في مصر، منها إجراءات التقشف التي شرعت الحكومة في تنفيذها منذ مطلع العام المالي 2014-2015، والتي تتضمن تخليا جزئيا عن دعم السلع التموينية والوقود والكهرباء، ما هيأ المناخ لموجة تضخم عاليا ارتفعت معها الأسعار لأكثر من 100% في أغلب السلع، فيما لا تزال الأجور عند مستوياتها السابقة لتلك الإجراءات، رغم وعود حكومية ورئاسية بعدم تنفيذ أية إجراءات تقشف قبل تحسين دخول العمال.
اليمن: ملايين تطحنهم رحى الحرب
فاقمت الحرب في اليمن من معاناة السكان في بلد يعد أفقر البلدان في المنطقة العربية، ويعيش حروباً واضطرابات وأزمات معقدة.
وتشير التقديرات إلى أن نسبة الفقر ارتفعت من 42% من السكان عام 2009 إلى 54.5% عام 2012، وفقا للبنك الدولي.
أقرأ أيضا: اليمن يرفع معاشات الأسر الفقيرة 50%
ويؤكد ناشطون وخبراء يمنيون في الاقتصاد أن الحرب ستضاعف أعداد الفقراء إلى أكثر من ثلاثة أرباع السكان بنهاية العام الجاري، وتشير منظمة اليونيسف إلى أن نصف سكان اليمن باتوا بحاجة إلى مساعدات إنسانية في مجالات العلاج والمياه والغذاء والأمن والمأوى، أو كل ذلك مجتمعا.
ويعتقد رئيس مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي، مصطفى نصر، أن أكثر من 84% من سكان اليمن في حاجة إلى مساعدة إنسانية بسبب الأزمة.
وقال نصر لـ "العربي الجديد" إن الحرب أدت إلى تعطيل النشاط الاقتصادي وتوقف الأعمال وانعدام العملة الصعبة وتوقف الاستيراد بفعل الحظر على الموانئ اليمنية البحرية والجوية، وهذا أدى بدوره إلى تسريح مئات الآلاف من العمال والموظفين وبالتالي إلى زيادة الفقر بشكل مخيف.
وحذر نصر من أنه في حال استمر الوضع كما هو عليه ستدخل البلد في كارثة إنسانية، لا سيما لدى الفقراء الذين يشكلون أكثر من نصف سكان اليمن.
وأوضح أن أسباب الفقر في اليمن متراكمة وتتمثل في استمرار النزاعات المسلحة والحروب الداخلية، بالإضافة إلى فشل الحكومات المتعاقبة في تحقيق التنمية وإنعاش الاقتصاد، كون الأولوية كانت دائما للملف السياسي وظل الملف الاقتصادي مهملا ولا يتصدر الأولويات، ولذا فشلت هذه الحكومات في إدارة الموارد الاقتصادية واستخدام المساعدات الدولية بشكل جيد.
تونس: أزمة الطبقة الوسطى
تونس واحدة من الدول التي عرفت في السنوات الأربع الماضية توسعا لدائرة الفقر، رغم أن ثورتها قامت أساسا على مكافحة هذه الظاهرة التي أدت إلى انتفاضة المحافظات الفقيرة والمهمشة ضد سياسة بلدهم انتهت بالإطاحة بنظام بن علي.
وكشفت دراسة اجتماعية ميدانية أعدها مركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية في أغسطس/آب الماضي، أن رقعة الفقر توسعت في تونس خلال السنوات الأربع الماضية بنسبة 30%، بعد أن تآكلت الشرائح السفلى من الطبقة الوسطى، وفقدت موقعها الاجتماعي لتتدحرج إلى فئة الفقراء نتيجة التحولات الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية، في ظل الارتفاع الكبير للأسعار مقابل سياسة أجور ودخول شبه جامدة، ما أدى إلى بروز "ظاهرة الفقراء الجدد" ممن تدهورت المقدرة الشرائية لتلك الشرائح بشكل حاد.
وتقول الدراسة إن "الفقراء الجدد" يمثلون 30% من العدد الإجمالي لفقراء تونس البالغ عددهم نحو مليوني فقير من جملة 10 ملايين هم عدد سكان تونس.
وتعرف الدراسة الفقراء الجدد بـ "صغار الموظفين بالإدارة والمدرسين بالمدارس الابتدائية والإعدادية والعمال والأجراء الذين لا تتجاوز مرتباتهم وأجورهم الشهرية 700 دينار (368 دولارا)".
وحسب إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء (مؤسسة عمومية) تبلغ نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر الأدنى 3.08% أي حوالى 400 ألف تونسي، في حين تبلغ نسبة التونسيين الذين يعيشون تحت خط الفقر الأعلى قرابة مليون و200 ألف شخص.
وتعرف منظمة الأمم المتحدة الفقير بأنه كل شخص يقل دخله عن دولار في اليوم، غير أن البنك الدولي عرف الدول الفقيرة بأنها الدول منخفضة الدخل أي التي يقل فيها دخل الفرد عن 600 دولار سنويا.
وقد أدت التجاذبات السياسية وحالة التفكك الاجتماعي التي عاشتها تونس منذ ثورة يناير 2011، وتواصل غياب التوزيع العادل للثروات بين المحافظات إلى اتساع الهوة بين شرائح المجتمع، ليمتد الفقر إلى جزء كبير من الطبقة الوسطى التي تضم العمال، حيث تسبب ارتفاع كلفة المعيشة إلى تدحرجهم نحو خانة الفقراء.
كما تشهد تونس نسقا متسارعا لتفاقم محدودية الدخل الفردي للعائلات الفقيرة والمتوسطة، وارتفاع معدل عبء الإعالة وعدم المساواة في توزيع الأصول المادية بين السكان وبين الجهات، خاصة المحافظات الغربية التي تتميز بأكبر نسب الفقر، وانخفاض معدل النمو السنوي في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.
وتستأثر محافظات الشريط الغربي بأعلى نسب فقر التي تبلغ 30% في محافظات الوسط الغربي التي اندلعت منها الشرارة الأولى للثورة.
ويُحمّل الخبير في التنمية كمال العيادي، منوال التنمية الذي اعتمدته تونس منذ الاستقلال نتيجة ارتفاع نسبة الفقر في الشريط الغربي للبلاد، معتبرا أن هذا المنوال الذي وصفه بغير العادل، أدى إلى تفقير محافظات مقابل استئثار محافظات بمشروعات التنمية، وفق تصريحه لـ "العربي الجديد".
اقرأ أيضاً:
تراجع عدد الفقراء في العالم.. وتوقعات تستثني مصر
الحوثيون يوقفون معاشات 1.5 مليون مواطن