30 ابريل 2016
اطبخوا لنا إسمنتاً وحرية
هل تعلم أين يوجد أفضل "آيس كريم" في العالم؟ أجيبك: في غزة.
ليست هذه مزحة، بل هذا ما يزعمه روجر هيرينغ، مراسل هيئة الإذاعة البريطانية BBC في تقريره، الأحد الماضي، على موقع الهيئة الإلكتروني، بعنوان "صانع الآيس كريم في غزة". فيبدو أن مرطبات كاظم الشهيرة في غزة قد ذهبت بعقل هيرينغ، فجعلته ينسى الفظائع التي لا تحصى في القطاع، ويركز على "الآيس كريم"، ويختم تقريره: "يمكنني القول إنه من قلب مدينة نصفها مهدم، يخرج أفضل آيس كريم يمكن تذوّقه في العالم".
على كل حال، ليس هيرينغ الأول الذي يُعجب بطيب طعام غزة، فهذه حقيقة قد يجمع عليها زوار القطاع، من دبلوماسيين وصحافيين وموظفين دوليين ونشطاء ومتضامنين. فغزة المشغولة بالحصار، والفقر والبطالة، والحروب، تمتلك ميزة، لا ينتبه لها كثيرون، هي امتلاكها مطبخاً غنياً، يحتوي ما لذ وطاب من أصناف الطعام.
وتحضرني هنا حادثة شهدتها لمسؤول تركي، زار غزة، وكان يعاتب أحد موظفي مؤسسته، على نوعية طعام اختاره في إحدى المناسبات، قال له: "ما هذه القائمة؟ زرت غزة مرات، ويمكنني أن أقول إن أفضل طعام في العالم موجود هنا". ويروي لي صديق، يعمل مترجما للوفود الأجنبية، قصصاً كثيرة عن عشق الأجانب، وخصوصاً الأميركيين والأوروبيين منهم، أنواع الأطعمة الغزية؛ وسَرَد حكايات طريفة، منها إدمان بعضهم على أنواع من الشاورما من مطاعم بعينها. كما أن سكان القطاع يتميزون بامتلاكهم حاسة "تذوق" حساسة، ومتطرفة، تجعل من تقبلهم الأطعمة أمراً بالغ الصعوبة.
ولعلي "أُفشي" سراً هنا، إذا قلت إن فلسطينيي غزة المقيمين في دول كثيرة يجدون صعوبة في التأقلم مع أطعمة الشعوب الأخرى، ويتحينون الفرصة للحصول على أصنافٍ من الأطعمة الغزية، عبر المسافرين والأقارب.
ويتميز المطبخ الغزي بأنه مفتوح، ومتجدد دائماً، ويقتنص من المطابخ الأخرى ما لذ وطاب من أكلاتها ومقبلاتها، وحلوياتها، ويقلدها ببراعة، بل وقد يتغلب على "الأصل" في صناعتها.
نقل الغزيون، مثلاً، الكنافة النابلسية من نابلس، وأصبحت أساسية في قائمة الحلويات، وهم يزعمون أن ما يصنعونه منها أطيب وألذ بكثير مما يصنعه الأشقاء في نابلس؛ (على ذمة من زاروا الضفة، وتناولوا الحلويات الأصلية هناك). كما أن أصناف الطعام الغزية صحية إلى حد كبير، فقد تخلى السكان، في العقود الثلاثة الماضية، تدريجياً وبشكل شبه كامل، عن تناول لحوم الأغنام الدسمة، والمشبعة بالدهون، واستعاضوا عنها بلحوم البقر الأكثر صحية. ويظهر هذا بوضوح في عيد الأضحى، حين تكون غالبية الأضاحي من البقر والعجول، على عكس فلسطينيي الضفة وأراضي 48 الذين يفضلون الأغنام.
ويتسبب هوس الغزيين بالطعام اللذيذ والنظيف معاً بصعوبة كبيرة للمطاعم التي تجتهد في تقديم أفضل ما لديها، لتظل مقبولة من زبائنها.
أما المطاعم الجديدة، فأمامها مهمة شاقة في "النجاح"، وإثبات الذات، و"تربية الزبائن"، ويعرف الغزيون قصصاً كثيرة عن مطاعم جديدة قد تصنف "ممتازة" في خدماتها، لكنها على الرغم من ذلك فشلت، وأغلقت أبوابها.
ليس هذا الأمر إيجابياً بشكل كبير، فوجود مطبخ غني، في بلد ما، يعني وجود تكاليف إضافية كثيرة، تتكبّدها الأسرة، خصوصاً مع تفشي الثقافة الاستهلاكية، فما بالنا حينما تكون نسب الفقر والبطالة فيه الأعلى في العالم، كما يقول البنك الدولي. ومن سلبيات هذا الأمر أيضا، أنه يرهق النساء، ويجعلهن مرتهنات لمتطلبات الأسرة الاستهلاكية، ومقيّدات بسؤال الأزواج والأبناء اليومي المزمن: شو طابخين اليوم؟ ويذكّرنا هذا السؤال بقصة أبو الرقعمق الذي سُئل في يوم بارد: ذبحنا لك شاة سمينة، فاشته علينا ماذا نطبخ لك منها، فأنشد: قالوا اقترح شيئاً نُجدْ لك طبخه.. قلت اطبخوا لي جبّة وقميصا.
وفي ظنّي، إن أهل غزة، مع عشقهم أطايب الطعام، لو سئلوا هذا السؤال، سيجيبون: اطبخوا لنا إسمنتاً وحرية.
على كل حال، ليس هيرينغ الأول الذي يُعجب بطيب طعام غزة، فهذه حقيقة قد يجمع عليها زوار القطاع، من دبلوماسيين وصحافيين وموظفين دوليين ونشطاء ومتضامنين. فغزة المشغولة بالحصار، والفقر والبطالة، والحروب، تمتلك ميزة، لا ينتبه لها كثيرون، هي امتلاكها مطبخاً غنياً، يحتوي ما لذ وطاب من أصناف الطعام.
وتحضرني هنا حادثة شهدتها لمسؤول تركي، زار غزة، وكان يعاتب أحد موظفي مؤسسته، على نوعية طعام اختاره في إحدى المناسبات، قال له: "ما هذه القائمة؟ زرت غزة مرات، ويمكنني أن أقول إن أفضل طعام في العالم موجود هنا". ويروي لي صديق، يعمل مترجما للوفود الأجنبية، قصصاً كثيرة عن عشق الأجانب، وخصوصاً الأميركيين والأوروبيين منهم، أنواع الأطعمة الغزية؛ وسَرَد حكايات طريفة، منها إدمان بعضهم على أنواع من الشاورما من مطاعم بعينها. كما أن سكان القطاع يتميزون بامتلاكهم حاسة "تذوق" حساسة، ومتطرفة، تجعل من تقبلهم الأطعمة أمراً بالغ الصعوبة.
ولعلي "أُفشي" سراً هنا، إذا قلت إن فلسطينيي غزة المقيمين في دول كثيرة يجدون صعوبة في التأقلم مع أطعمة الشعوب الأخرى، ويتحينون الفرصة للحصول على أصنافٍ من الأطعمة الغزية، عبر المسافرين والأقارب.
ويتميز المطبخ الغزي بأنه مفتوح، ومتجدد دائماً، ويقتنص من المطابخ الأخرى ما لذ وطاب من أكلاتها ومقبلاتها، وحلوياتها، ويقلدها ببراعة، بل وقد يتغلب على "الأصل" في صناعتها.
نقل الغزيون، مثلاً، الكنافة النابلسية من نابلس، وأصبحت أساسية في قائمة الحلويات، وهم يزعمون أن ما يصنعونه منها أطيب وألذ بكثير مما يصنعه الأشقاء في نابلس؛ (على ذمة من زاروا الضفة، وتناولوا الحلويات الأصلية هناك). كما أن أصناف الطعام الغزية صحية إلى حد كبير، فقد تخلى السكان، في العقود الثلاثة الماضية، تدريجياً وبشكل شبه كامل، عن تناول لحوم الأغنام الدسمة، والمشبعة بالدهون، واستعاضوا عنها بلحوم البقر الأكثر صحية. ويظهر هذا بوضوح في عيد الأضحى، حين تكون غالبية الأضاحي من البقر والعجول، على عكس فلسطينيي الضفة وأراضي 48 الذين يفضلون الأغنام.
ويتسبب هوس الغزيين بالطعام اللذيذ والنظيف معاً بصعوبة كبيرة للمطاعم التي تجتهد في تقديم أفضل ما لديها، لتظل مقبولة من زبائنها.
أما المطاعم الجديدة، فأمامها مهمة شاقة في "النجاح"، وإثبات الذات، و"تربية الزبائن"، ويعرف الغزيون قصصاً كثيرة عن مطاعم جديدة قد تصنف "ممتازة" في خدماتها، لكنها على الرغم من ذلك فشلت، وأغلقت أبوابها.
ليس هذا الأمر إيجابياً بشكل كبير، فوجود مطبخ غني، في بلد ما، يعني وجود تكاليف إضافية كثيرة، تتكبّدها الأسرة، خصوصاً مع تفشي الثقافة الاستهلاكية، فما بالنا حينما تكون نسب الفقر والبطالة فيه الأعلى في العالم، كما يقول البنك الدولي. ومن سلبيات هذا الأمر أيضا، أنه يرهق النساء، ويجعلهن مرتهنات لمتطلبات الأسرة الاستهلاكية، ومقيّدات بسؤال الأزواج والأبناء اليومي المزمن: شو طابخين اليوم؟ ويذكّرنا هذا السؤال بقصة أبو الرقعمق الذي سُئل في يوم بارد: ذبحنا لك شاة سمينة، فاشته علينا ماذا نطبخ لك منها، فأنشد: قالوا اقترح شيئاً نُجدْ لك طبخه.. قلت اطبخوا لي جبّة وقميصا.
وفي ظنّي، إن أهل غزة، مع عشقهم أطايب الطعام، لو سئلوا هذا السؤال، سيجيبون: اطبخوا لنا إسمنتاً وحرية.