اغتراب الزمان في "نقّل فؤادك"

11 مايو 2015
(دار الساقي، بيروت، 2014)
+ الخط -
"مش رح شوفها، قلت لسعاد بنبرة جعلتها تصمت لوقت أقفلت خطّ التليفون بعده".
هكذا، برفضه رؤية صورة حديثة لها، أنهى قاسم رحلة بحثه الطويلة، عن حبه الأول "دلال عباشي".

حين يبلغ قاسم، بطل رواية "نقّل فؤادك" الصادرة حديثًا عن دار الساقي للروائي اللبناني حسن داوود، مشارف الستين، يقرر البحث عن "دلال"، حب المدرسة، ولا يصف رغبته بالعثور عليها في هذا العمر بأنها رغبة طارئة، بل يعتبرها رغبة قديمة ومؤجلة. مستعينًا في هذه المهمّة بصديقته "سعاد" التي لا نعرف عن حياتها الكثير، وحضورها في الغالب، لا يكون سوى لاستدعاء طيف دلال، التي شكل غيابها، والبحث عنها، عُذر الحكاية جُلّها.

لعبت سعاد في رحلة البحث دور الدليل والمتحرّي، تعثر في كل مرة على خيط يقود إلى "دلال"، فتشد قاسم نحوها باستخدامه، لتبقى علاقتهما على قيد الشغف ويبقى التشويق والترقّب واللعب حاضرين. مرّة، تعثر على واحد يحمل اسم العائلة نفسه، "عباشي"، مرّة تلتقي بأحدهم تربطه بها صلة قرابة بعيدة، ومرّة تعثر على البيانو الخاص بها، وقاسم، في كل مرة تلقي بخيطها يقترب، إما متكاسلًا، أو متشوقًا، لكنه غير متذمرٍ أبدًا من لعبتها تلك.

يمضي بنا قاسم، في بحثه، صوب الماضي الذي يدور في فلك دلال، ويعمّر استنادًا إلى تفاصيلها الدقيقة عالمًا كاملًا يتجوّل فيه بذاكرته، معطفها المدرسيّ الذي أبقته يومًا لدى قاسم فعلّقه على ذراعه وأغفل أن يلمسه بيده، غير أنه يجزم بأنه كان ناعمًا، وإبهامها بالغ الأهمية في ذاكرته، حين كانت تضغط به على الأوراق لتعلّقها على الحائط، بل ثانيتين توقفت فيهما كأنما تدعوه ليقترب منها ويحدّثها وفوّتهما قاسم على نفسه بتردده قبل أن تعود وتكمل طريقها، تاركة له أسفه على تأجيله الأشياء، أسفٌ سيبقى يعاني أعراضه حتى مشارف الستين، إذ يقرر البحث عنها. ماضٍ يكسبه قاسم بتلك التفاصيل ألفة ودفئاً ويمنحه، بذلك، كل أسباب البحث والحنين طوال الرواية.

يسير بالتوازي مع الماضي، خط آخر يصف الحاضر المشحون بما قد تبدو بأنها يوميّات وعاديّات، غير أنها، تنطوي لدى قاسم، على كل أسباب اغتراب الزمان الذي يعانيه، إذ ينتقل قاسم وهو على مشارف الستين، إلى عمل جديد في صحيفة تحت التأسيس يملكها مستثمر شاب، يصرّ على مطالبة فريق عمله الفتي بالكامل ـ عدا قاسم ـ بالجديد. جديدٌ، يصير يشكل لقاسم الخمسيني، إضافة إلى أعمار زملائه، عوامل اغتراب إضافيّة، فيقول: "في أحيان أفكّر أن هناك غلطاً ما في أن ينتقل شخص إلى عمل جديد وهو على قرب خطوتين من عمر الستين. وسيكون الغلط أكثر حرجًا إن كان الشغل الجديد هذا متأسّساً لتوّه، وما زال المشرفون عليه لم ينتهوا من تأثيث مكاتبهم بعد. في هذه الحال سيكون الآخرون، أقصد الموظفين الذين سيعمل معهم، شبّاناً في بداية إقبالهم على العمل. قد يكون بينهم من قطع بعض شوط في الشغل، لكن هذا لن يخفّف عليه شعوره بأنه كبير بينهم وأنهم، منذ يوم العمل الأول، سيبدأون بتأسيس روابط الزمالة، بل روابط الصداقة، في ما بينهم، مبقين على علاقتهم به مثلما كانت في اليوم الأول". هنا يذكّرنا شعور قاسم بالغرابة حيال الأشياء الجديدة، بشعور بطل رواية "أيام زائدة" للكاتب نفسه، إذ أهداه أبناؤه نظارة جديدة بإطار يلمع، فأخذ يلف عليها خيوطًا، أفسدت شكلها، ذلك أن جدّتها على وجهه العتيق كانت تصيبه بالأذى، فأراد بهذا أن يمنحها بعض الخراب الذي أصاب وجهه بفعل الزمن.

النساء أيضًا، صرن يخذلن قاسم في هذا العمر. تقول له سعاد: "إنت لازم تعرف إنو النسوان متل ما بتحبهن"، وتعني بهذا الصغيرات في العمر، "ما بقا يصحّولك"، أي لم يعدن يناسبن عمرك، وقاسم، الذي يتلقى هذه العبارة مازحًا، لم يمكن ليستقبل خذلان دلال له، حين كبُرَت، بالحال نفسه. عندما خابرته سعاد لتعلِمه أنها عثرت على صورة حديثة لدلال، سألها وكأنه لا يعرف الجواب، "قدّيش عمرها؟"، كأنها، هي وحدها، لا يمكن ولا يعقل ولا يصحّ أن تكون خمسينيّة مثله، أو أن يطالها هي الأخرى فعل الزمن فتتغيّر كحال الأشياء. وعندما أجابته سعاد بأنها تبدو خمسينية ولكنها جميلة، قال لها: "مش رح شوفها".

بيروت هي الأخرى، مكانه، مدينته التي تغيّر وجهها كل يوم كأنثى ضجِرة، شوارعها الجديدة، واجهات محلّاتها المتغيّرة. بيروت التي أخذت تشبه الأجيال الجديدة، فلا تحنّ إلى ماضيها، ولا يحن شبابها إلى زمن لا يعرفونه، صارت تتنكّر لقاسم. وفي تماهٍ مع هذا الأخير، يقول حسن داوود في إحدى مقابلاته: "أحاول اللحاق بما تصير بيروت إليه. لقد تغيّرتْ مرة أخرى بكونها تُبنى لتكون مختلفة حتى عمّا كانته قبل الحرب وكذلك عمّا كانته لسنوات كثيرة من بعد الحرب"، ويكمل شارحًا هذا التماهي: "في كتابي الأخير، "نقّل فؤادك"… متابعة لتجربتي في البحث عن مكان لي في هذه المدينة الجديدة. أكثر ما أخاف هو أن أكتفي بالتفرّج عليها، أو أن أكون مجرّد شاهد محايد على جديدها، أن أكون مثل زائر ينظر إلى الأشياء حوله ويحار بين أن يعجبه ما يراه وألا يعجبه".

حسن داوود في رواية "نقّل فؤادك"، يبدأ الحكاية بساردٍ، يتوقف قبل كل شيء عند عمره، واضعًا يده، منذ الصفحة الأولى، على موطن القلق، يقول "أنا في الثامنة والخمسين" على وجه التحديد، يقول ذلك واعيًا ومدركًا أنه على مشارف المحطة الأخيرة التي لن يكون ثمة متسع من الوقت أو العمر بعدها. في حين اختار داوود أن يبدأ روايته "أيام زائدة" مثلاً، برجل يحدّث نفسه متسائلاً: ترى كم بلغت العمر؟ محتارًا إن كان عمره قد جاوز المئة أم أنه لا يزال في التسعين بعد، وقد تبدو الحالتان مختلفتان، لكنهما، في جوهرهما، تبحثان الأثر ذاته. أثر الزمن على الناس والأشياء. الشيخوخة، مشارفها أو أقاصيها، وحالة الانفصال عن الواقع المحيط، سواء أكان المحيط هذا وطن، مدينة، عمل، بشر، أو مزاج عام.

وداوود، عبر بطل واحد سارد للرواية، بحث كعادته في معنى الأشياء التي قد تبدو لنا عابرة أو اعتيادية، ذلك أننا لا نمنحها الزمن الكافي لتأمّلها، حين نهرول للحاق بالأحداث الجديدة، فنصير نعرف أكثر، ونفهم أقل. تفاصيل وأشياء عابرة يعدّها داوود هي المتن، فيما يعدّ الأحداث، كالبحث عن دلال مثلًا، أعذاراً وهوامش.

يمنح داوود التفاصيل كل الوقت، يثقل بها كاهل الزمن، فيبدو الزمن في أعماله أبطأ من الواقع، مكسّرًا إيقاعه، ومعيدًا إنتاجه حسب ما تقتضيه تأملاته، ولا يعني هذا أنه لا يحقق قفزات على صعيد الزمن، أو يوسّع مداه الزمني في الرواية، لكنه يفعل ذلك من دون أن تشعر معه باللهاث أو بالسرعة، ذلك أنه غير معنيّ بتسلسل الأحداث وإنما بتراكم أثرها.

الزمن، أحد أهم مداخل أعمال حسن داوود، يعالجه إما بالموضوع كما في "بناية ماتيلد"، "أيام زائدة"، "لعب حيّ البيّاض" وأخيرًا "نقّل فؤادك"، أو باستخدام التقنية، الخاصة به، التي يعيد من خلاها تعريف الزمن، يكسّره ويعيد تركيبه، لكنه، في كل الأحوال، لا يقف منه موقف الحياد، ولا يعتبره صديقاً، فيقول في تصريح للمصدر السابق ذكره: "أظنّ أنّ الحبّ أقلّ بقاء وقدرة على تغيير البشر من الحكمة، كما من الزمن خصوصًا".

(روائية وشاعرة بحرينية)
المساهمون