26 سبتمبر 2018
اغتيال عمر النايف... اتهام الموساد والمسؤولية الفلسطينية
صباح يوم الجمعة، 26 فبراير/ شباط 2016، ومع فتح مبنى السفارة الفلسطينية في صوفيا، عُثر على الشهيد عمر زايد النايف ملقى على الأرض في الساحة الخلفية للمبنى، واتصل الدبلوماسي المعني على الفور مع أحد الزملاء الذي حضر على وجه السرعة إلى مقرّ السفارة، وحاول الاثنان تقديم المساعدة الطبية، ونقل الشهيد الذي لم يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد إلى داخل مبنى السفارة، وكان الجوّ بارداً وماطراً، واتصلا بالسفير وطاقم السفارة الآخرين، وبالإسعاف الذي حضر إلى السفارة بعد فوات الأوان، لتسجيل واقعة الوفاة.
غموض واتهامات
تفيد البيانات الطبية الأولية التي سجّلت، بعد معاينة الجثمان والمكان، بأن النايف تعرّض لإصابة بالغة في الجمجمة، تبع ذلك نزيف أدّى إلى فقده الحياة. وحاول بعضهم تسويق فكرة انتحار النايف، أو مماثلة هذه الحالة، الأمر الذي قد يحفظ ماء الوجه لدى كثيرين، بعد أن كان قد عُرف وشاع أن ضغوطاً مورست على النايف الذي كان معتصماً في السفارة منذ ديسمبر/ كانون أول من أجل أن يغادرها، وهو الذي طالب به الادعاء العام البلغاري، بعد مخاطبة الخارجية الإسرائيلية الحكومة البلغارية تطلب تسلمه، باعتباره "سجيناً جنائياً هارباً". والمعلوم أن الشهيد كان قد تمكن من الهرب، في العام 1990 من مستشفى في بيت لحم، كان يعالج فيه، في أثناء مدة سجنه محكوماً بالمؤبد لتنفيذه عملية فدائية قُتل فيها مستوطن في القدس المحتلة، وتمكن لاحقاً من الوصول إلى بلغاريا، وأقام فيها.
وذكر طبيب الجراحة، هاني اليوسف، الفلسطيني البلغاري الذي حضر إلى المكان، وعاين جثمان الشهيد، أنه لا أثر لإطلاق النار واحتمال سقوطه من علٍ، وكذا تناوله الأدوية المسكّنة للمعدة. وقال آخرون، ومنهم السفير الفلسطيني في صوفيا، أحمد المذبوح، إنّ النايف كان يمرّ بحالة نفسية صعبة، وهذا يصبّ في محاولات ترويج حادثة الانتحار، لرفع المسؤولية عن الجهات المعنية باغتيال الشهيد النايف، والتخلّص من حالة القلق والحرج التي طغت على الأجواء. وكان أخ الشهيد، أحمد النايف، قد نظّم مظاهرة أمام السفارة البلغارية في رام الله صباح الثاني من مارس/ آذار الجاري، عشية العيد الوطني البلغاري، ضمّت العشرات، اتّهموا فيها الحكومة البلغارية بالتورّط في عملية الاغتيال، وحمّلوا صوفيا المسؤولية عن وقوع الجريمة.
والمعروف أنّ جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) قادر على تأهيل مسرح الحدث، ليبدو انتحاراً، في محاولة لخلط الأوراق، لعدم الوقوع في مطبّات وأزمات دبلوماسية، على الرغم من العلاقة الاستراتيجية التي تربط بلغاريا بإسرائيل، وكان حرياً بالطرف الفلسطيني الحفاظ على أمن الشهيد، قبل الوصول إلى هذا المنعطف المأساوي.
وقد أصيب كلّ من زار السفارة بعد الحادث، بل وقبله بكثير، بحالة من العجب من الأوضاع
الأمنية المزرية للسفارة التي تفتقر لحراسة خارجية، ولم تقدم على توظيف حرس متخصّص على مدخل المبنى للمناوبة في الكشك القديم الذي بقي خاوياً ما يزيد على ثماني سنوات، وتمّ توظيف هذا الحرس، بعد اغتيال الشهيد داخل المبنى مباشرة. ويفتقر مقرّ السفارة من الداخل لكاميرات رقابة، والسور منخفض وتعرّض لأضرار بالغة بسبب أعمال إنشاءات تقوم بتشييد مجمّع لمكاتب أعمال في جوار السفارة المكشوفة من الاتجاهات كافة. ويمكن مراقبة ما يحدث داخلها بالوقوف على أطراف الأصابع، أمّا القفز من على السور فميسّر وسهل للغاية. وقد امتنع السفير عن القيام بأيّة أعمال إضافية لحماية السفارة، متذرّعاً بنقص الموازنة ورفض الخارجية الفلسطينية تقديم مزيد من الأموال لتوفير الحماية المطلوبة. ولجأت النيابة البلغارية للحصول على بعض المعلومات من كاميرات الرقابة في المباني المحيطة، من دون الكشف عن أيّة تصريحات بهذا الشأن، حتى كتابة هذه السطور.
اتهامات متضاربة
هناك شبه إجماع على أنّ الموساد هو الذي أشرف على تنفيذ هذه العملية، علماً أنّ الاتصالات، بما فيها خدمة الإنترنت، انقطعت قبل المفاجأة بحالة النايف ملقى على الأرض بساعات، كما أفاد المقرّبون من الشهيد، وهذا أمر ليس صعباً على الموساد، إذ لا يحتاج تعطيل الإشارات الإلكترونية والبثّ لتقنيات معقّدة، كما أنّ اقتحام السفارة لا يمثّل صعوبة، مع انعدام الحماية المطلوبة. واتّهمت عائلة عمر النايف مباشرة الموساد بتنفيذ عملية الاغتيال، ولكن بأيدٍ فلسطينية، موضّحة تعرّضه لمضايقات ومطالبات حثيثة بمغادرته المبنى، بعد أن بات أمر وجوده هناك معروفاً للقاصي والداني.
وقد صرّح الخبير الأمني ورئيس جمعية الصداقة البلغارية الفلسطينية، سلافتشو فلكوف، أن محاولاتٍ جرت لإخراج عمر النايف من المبنى، لتسليمه في صباح اليوم المشؤوم، لكنّ أمراً ما قد حدث حال دون تحقيق هذه الغاية، ما أدّى إلى اغتياله. وقال إن إسرائيل هي المعنية بعملية الاغتيال، ولو تمّ ذلك خارج حدود السفارة، لاعتبر اعتداءً على سيادة الحكومة البلغارية. وأفاد بأنّه كان قد تمّ الاتّصال بمحامٍ دوليّ، وكان مقرّراً أن يسلّم النايف نفسه في الأيام القليلة المقبلة، من دون وجود مخاوف لتسليمه لإسرائيل، فهو ربّ لعائلة بلغارية، ولديه إقامة دائمة، وهذا ما حدا بتسريع محاولة إخراجه من مبنى السفارة أو اغتياله داخلها. وقال فيلكوف إنّ الرجل لم ينتحر، ولكن هناك إمكانية لمماثلة هذه الوضعية. وأشار إلى المكالمة الهاتفية التي أجرتها النيابة الإسرائيلية مع يافا بنحاسي، أخت المستوطن الذي طعنه عمر النايف قبل نحو ثلاثين عاماً، وطالبوها بعدم القلق، لأنّ النايف بات "مستهدفاً".
وقالت المحامية والنائبة السابقة في البرلمان البلغاري، فاني خريستوفا، إنّ فترة التقادم المطلق
في هذه القضية تنتهي في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الحالي 2016، لمرور 30 عاماً على حادث طعن المستوطن، ما يعني وجود تناقض في مذكّرة الجلب التي أصدرتها النيابة في صوفيا، وعليه تصبح لاغيةً، ولا يمكن إبعاد عمر النايف إلى (إسرائيل). ويحتسب التقادم المطلق كامل الفترة، بما في ذلك المدّة التي قضاها في السجن والهرب، حسب فقرات القانون البلغاري. وأوضحت المحامية خريستوفا التي كانت مرشّحة لتبنّي القضية، علماً أنّ الشهيد عمر النايف كان على بيّنة بالتطورات القانونية، ولذلك تصبح فرضية انتحاره مغرضة، وتخدم أوساطاً محدّدة، لم تقم بالمسؤولية الوطنية لحماية الشهيد، المعروف بجأشه وشجاعته وقدرته على التحمّل، وهو الذي كان قد رفض عروضاً قدّمت لتهريبه من بلغاريا، لكنّه أصرّ على موقفه، وصرّح في أكثر من مناسبة إنّه ليس مجرماً، بل مناضل من أجل تحرير وطنه، ولن يتراجع عن هذا القرار، وإن أدّى ذلك إلى استشهاده في مقرّ السفارة، وكأنّه قد قرأ المستقبل في تلك اللحظة.
وأرشيف جهاز الموساد حافل بارتكاب جرائم اغتيالات عديدة، ومنها اغتيال الأديب والقيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، غسان كنفاني، بتفجير سيارته في بيروت في الثامن من يوليو/ تموز 1972. واغتيال الشاعر الفسطيني كمال ناصر والقادة أبو يوسف النجار وكمال عدوان في أبريل/ نيسان 1973. وفي 1988، اغتيل في تونس القائد خليل الوزير (أبو جهاد) عضو اللجنة المركزية لحركة فتح والمسؤول العسكري في منظمة التحرير الفلسطينية، وأطلق القتلة الحاقدون في جسده 172 رصاصة. وفي 1991، اغتيل القائد الفلسطيني صلاح خلف (أبو إياد) في تونس أيضًا. وفي 1995، اغتيل الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، فتحي الشقاقي، في مالطا عام 1995.
التقرير الطبّي المؤجّل
على الرغم من تأخير نشر تقرير اللجنة الطبية المتخصّصة التي أشرفت على تشريح جثمان النايف، إلا أنّ أحد الأطباء قال، في يوم الحادث المفجع، إن هناك كسراً في قدم الشهيد، وأنّ الوفاة حدثت بعد مضيّ 20 دقيقة من السقوط، ولا توجد علامات تدلّ على استخدام العنف ضدّ الشهيد. ومع ذلك، تأخّر تقديم التقرير لعائلته ونشره، أخذاً بالاعتبار حالة الرفض الصريح لتوجهات ترجيح عدم استخدام العنف ضدّ الشهيد عمر، لتجنّب حدوث أزمة سياسية دولية. وقد تترك اللجنة المجال مفتوحاً لتأويلات عديدة للتقرير، لإرضاء الطرف الشعبي الفلسطيني. ولنا في اغتيال القيادي في حركة حماس، محمود المبحوح، في دبي في العام 2010، درس لا ينسى، ولولا آلاف الكاميرات المنصوبة في كلّ مكان، لما تم الكشف عن تفاصيل عملية الاغتيال وملابساتها في الفندق الذي أقام فيه المبحوح، بعد صعقه كهربائياً ثمّ خنقه في غرفته.
صاحبت عملية اغتيال الشهيد عمر النايف حالة من التعتيم الإعلامي، على الرغم من الاهتمام البالغ لوسائل الإعلام الوطنية والدولية، ولم تصدر أيّة تصريحات رسمية من الطرف البلغاري، سوى تصريحات رئيس الوزراء، بويكو بوريسوف الذي عبّر عن أسفه بشأن هذا الحادث الذي صادف عودته من زيارةٍ رسمية قام بها إلى إسرائيل. وكان قد أعلن مرّات عن وجود علاقة صداقة حميمة ومميّزة تربطه برئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو، ويخاطبه بلقبه المحبّب "بيبي".
وقد أطلقت السفارة الفسطينية في صوفيا تصريحات مقتضبة، اعتبرت فيها عمر النايف شهيد الوطن، وأعلنت أنّها بذلت جهدها لحمايته، واتهمت إسرائيل بالتورّط بتنفيذ هذه العملية. وقد أصدرت النيابة البلغارية تقريراً أوّلياً، ذكرت فيه أنّ الشهيد عمر النايف قضى نتيجة سقوطه من ارتفاع شاهق، وتعاطى قبل ذلك مسكّنات للمعدة، ولا يمكن البتّ بشأن سقوطه، إذا كان انتحاراً أو أن مجهولين دفعوه ليسقط من أعلى المبنى. ويمكن للجان التحقيق الجنائية قطع الشكّ باليقين، ولذلك تمّ تسجيل الجريمة ضدّ مجهول.
لجنة التحقيق الفلسطينية
حضرت إلى صوفيا لجنة تحقيق فلسطينية من رام الله، برئاسة وكيل وزارة الخارجية، تيسير
جرادات، وممثل عن الجبهة الشعبية ومسؤول أمني في المخابرات الفلسطينية، والتقت اللجنة بمثيلتها البلغارية، حيث تمّ تعريفها بآخر ما توصّلت إليه من معلومات في القضية. وأجرت سلسلة من التحقيقات مع كامل أعضاء السفارة، وجميع من التقى الشهيد عمر قبل اغتياله، ومع كلّ من تربطه أيّة علاقة بهذا الملف. لم تعلن اللجنة عما توصّلت إليه، وعادت إلى رام الله، على أن تعود إذا دعت الضرورة. في الأثناء، تواصلت الأجهزة البلغارية المعنية بعائلة الشهيد، وعرضت عليهم دفن جثمانه، إذا رغبوا بذلك، لانتهاء أعمال معاينة وتشريح الجثّة قبل تسليمهم التقرير، ويسمح القانون البلغاري باعتراض العائلة على فحوى التقرير، وطلب طبيب آخر للقيام بالمعاينة مجدداً، حال وجود شكوك بصحّة المعلومات الواردة فيه.
وقد تركت واقعة الاغتيال تساؤلات كثيرة، بشأن حقيقة العلاقات الفلسطينية البلغارية، فقد منعت السلطات البلغارية أخ الشهيد، كاشف النايف، ووفداً فلسطينياً، لإلقاء نظرة على جثمان الشهيد بعد يوم من نقله إلى المستشفى. فيما لم تتجرّأ السلطات البلغارية على معارضة مصادرة إسرائيل كل الأدلة والقرائن المتوفرة والموجودة في محيط منطقة تفجير الحافلة التي أقلّت سيّاحاً قادمين من إسرائيل في مطار سرافوفو في مدينة برغاس الساحلية. وأجرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تحقيقات موسّعة، وأشرفت على نشر المعلومات التي تريدها فقط، من دون أن تبلغ أحداً بالنتائج الأخرى التي توصّلت إليها. في المقابل، لم يحصل الطرف الفلسطيني سوى على الحدّ الأدنى من التعاون، ولم يتوفر المجال لمزيدٍ من الإجراءات القادرة على إجراء معاينة طبية ومهنية من الجانب الفلسطيني، لإظهار ملابسات الواقعة والكشف عن المتورّطين في هذا العمل الإجرامي وتحديد هوية الجاني.
وقد أصدرت عائلة النايف بياناً أعلنت فيه رفضها توجّهات اللجان إلى تحديد أسباب الموت، بما يخدم فرضية عدم تعرّض الشهيد لاعتداء خارجي، ومحاولة تبرئة السفارة الفلسطينية من مسؤولياتها بشأن عدم رفع مستوى الحماية في محيطي المبنى، الداخلي والخارجي. أمّا بشأن الطرف البلغاري، فيصعب تحميل الحكومة البلغارية المسؤولية في كلّ ما حدث، وعلى الرغم من معرفة الجميع بمكان وجود عمر النايف، إلا أنّ التصريح عن ذلك لم يتم رسمياً، ولا يمكن مطالبة الحكومة البلغارية بحمايته، وقد أصدر الادّعاء البلغاري مذكرة جلب له. عدا عن ذلك، كانت بلغاريا قد قدّمت لعائلة عمر الجنسية البلغارية والفرصة لمزاولة حياة كريمة.
يتم بسط كل هذه الحقائق، مع السؤال: لماذا فشلنا في حماية الشهيد عمر زايد النايف؟ وهل ستحمل السلطة الفلسطينية في رام الله المقصّرين الرسميين مسؤولية ما حدث؟ وهل ستتم إقالة ومحاسبة جميع المعنيين بتسهيل عملية الاغتيال؟ أم ستبقى الأمور على حالها، من دون أن يجرؤ أحد على القيام بأيّة عمليات إصلاح حقيقية، بشأن مهنية السفارات الفلسطينية في الخارج.
غموض واتهامات
تفيد البيانات الطبية الأولية التي سجّلت، بعد معاينة الجثمان والمكان، بأن النايف تعرّض لإصابة بالغة في الجمجمة، تبع ذلك نزيف أدّى إلى فقده الحياة. وحاول بعضهم تسويق فكرة انتحار النايف، أو مماثلة هذه الحالة، الأمر الذي قد يحفظ ماء الوجه لدى كثيرين، بعد أن كان قد عُرف وشاع أن ضغوطاً مورست على النايف الذي كان معتصماً في السفارة منذ ديسمبر/ كانون أول من أجل أن يغادرها، وهو الذي طالب به الادعاء العام البلغاري، بعد مخاطبة الخارجية الإسرائيلية الحكومة البلغارية تطلب تسلمه، باعتباره "سجيناً جنائياً هارباً". والمعلوم أن الشهيد كان قد تمكن من الهرب، في العام 1990 من مستشفى في بيت لحم، كان يعالج فيه، في أثناء مدة سجنه محكوماً بالمؤبد لتنفيذه عملية فدائية قُتل فيها مستوطن في القدس المحتلة، وتمكن لاحقاً من الوصول إلى بلغاريا، وأقام فيها.
وذكر طبيب الجراحة، هاني اليوسف، الفلسطيني البلغاري الذي حضر إلى المكان، وعاين جثمان الشهيد، أنه لا أثر لإطلاق النار واحتمال سقوطه من علٍ، وكذا تناوله الأدوية المسكّنة للمعدة. وقال آخرون، ومنهم السفير الفلسطيني في صوفيا، أحمد المذبوح، إنّ النايف كان يمرّ بحالة نفسية صعبة، وهذا يصبّ في محاولات ترويج حادثة الانتحار، لرفع المسؤولية عن الجهات المعنية باغتيال الشهيد النايف، والتخلّص من حالة القلق والحرج التي طغت على الأجواء. وكان أخ الشهيد، أحمد النايف، قد نظّم مظاهرة أمام السفارة البلغارية في رام الله صباح الثاني من مارس/ آذار الجاري، عشية العيد الوطني البلغاري، ضمّت العشرات، اتّهموا فيها الحكومة البلغارية بالتورّط في عملية الاغتيال، وحمّلوا صوفيا المسؤولية عن وقوع الجريمة.
والمعروف أنّ جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) قادر على تأهيل مسرح الحدث، ليبدو انتحاراً، في محاولة لخلط الأوراق، لعدم الوقوع في مطبّات وأزمات دبلوماسية، على الرغم من العلاقة الاستراتيجية التي تربط بلغاريا بإسرائيل، وكان حرياً بالطرف الفلسطيني الحفاظ على أمن الشهيد، قبل الوصول إلى هذا المنعطف المأساوي.
وقد أصيب كلّ من زار السفارة بعد الحادث، بل وقبله بكثير، بحالة من العجب من الأوضاع
اتهامات متضاربة
هناك شبه إجماع على أنّ الموساد هو الذي أشرف على تنفيذ هذه العملية، علماً أنّ الاتصالات، بما فيها خدمة الإنترنت، انقطعت قبل المفاجأة بحالة النايف ملقى على الأرض بساعات، كما أفاد المقرّبون من الشهيد، وهذا أمر ليس صعباً على الموساد، إذ لا يحتاج تعطيل الإشارات الإلكترونية والبثّ لتقنيات معقّدة، كما أنّ اقتحام السفارة لا يمثّل صعوبة، مع انعدام الحماية المطلوبة. واتّهمت عائلة عمر النايف مباشرة الموساد بتنفيذ عملية الاغتيال، ولكن بأيدٍ فلسطينية، موضّحة تعرّضه لمضايقات ومطالبات حثيثة بمغادرته المبنى، بعد أن بات أمر وجوده هناك معروفاً للقاصي والداني.
وقد صرّح الخبير الأمني ورئيس جمعية الصداقة البلغارية الفلسطينية، سلافتشو فلكوف، أن محاولاتٍ جرت لإخراج عمر النايف من المبنى، لتسليمه في صباح اليوم المشؤوم، لكنّ أمراً ما قد حدث حال دون تحقيق هذه الغاية، ما أدّى إلى اغتياله. وقال إن إسرائيل هي المعنية بعملية الاغتيال، ولو تمّ ذلك خارج حدود السفارة، لاعتبر اعتداءً على سيادة الحكومة البلغارية. وأفاد بأنّه كان قد تمّ الاتّصال بمحامٍ دوليّ، وكان مقرّراً أن يسلّم النايف نفسه في الأيام القليلة المقبلة، من دون وجود مخاوف لتسليمه لإسرائيل، فهو ربّ لعائلة بلغارية، ولديه إقامة دائمة، وهذا ما حدا بتسريع محاولة إخراجه من مبنى السفارة أو اغتياله داخلها. وقال فيلكوف إنّ الرجل لم ينتحر، ولكن هناك إمكانية لمماثلة هذه الوضعية. وأشار إلى المكالمة الهاتفية التي أجرتها النيابة الإسرائيلية مع يافا بنحاسي، أخت المستوطن الذي طعنه عمر النايف قبل نحو ثلاثين عاماً، وطالبوها بعدم القلق، لأنّ النايف بات "مستهدفاً".
وقالت المحامية والنائبة السابقة في البرلمان البلغاري، فاني خريستوفا، إنّ فترة التقادم المطلق
وأرشيف جهاز الموساد حافل بارتكاب جرائم اغتيالات عديدة، ومنها اغتيال الأديب والقيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، غسان كنفاني، بتفجير سيارته في بيروت في الثامن من يوليو/ تموز 1972. واغتيال الشاعر الفسطيني كمال ناصر والقادة أبو يوسف النجار وكمال عدوان في أبريل/ نيسان 1973. وفي 1988، اغتيل في تونس القائد خليل الوزير (أبو جهاد) عضو اللجنة المركزية لحركة فتح والمسؤول العسكري في منظمة التحرير الفلسطينية، وأطلق القتلة الحاقدون في جسده 172 رصاصة. وفي 1991، اغتيل القائد الفلسطيني صلاح خلف (أبو إياد) في تونس أيضًا. وفي 1995، اغتيل الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، فتحي الشقاقي، في مالطا عام 1995.
التقرير الطبّي المؤجّل
على الرغم من تأخير نشر تقرير اللجنة الطبية المتخصّصة التي أشرفت على تشريح جثمان النايف، إلا أنّ أحد الأطباء قال، في يوم الحادث المفجع، إن هناك كسراً في قدم الشهيد، وأنّ الوفاة حدثت بعد مضيّ 20 دقيقة من السقوط، ولا توجد علامات تدلّ على استخدام العنف ضدّ الشهيد. ومع ذلك، تأخّر تقديم التقرير لعائلته ونشره، أخذاً بالاعتبار حالة الرفض الصريح لتوجهات ترجيح عدم استخدام العنف ضدّ الشهيد عمر، لتجنّب حدوث أزمة سياسية دولية. وقد تترك اللجنة المجال مفتوحاً لتأويلات عديدة للتقرير، لإرضاء الطرف الشعبي الفلسطيني. ولنا في اغتيال القيادي في حركة حماس، محمود المبحوح، في دبي في العام 2010، درس لا ينسى، ولولا آلاف الكاميرات المنصوبة في كلّ مكان، لما تم الكشف عن تفاصيل عملية الاغتيال وملابساتها في الفندق الذي أقام فيه المبحوح، بعد صعقه كهربائياً ثمّ خنقه في غرفته.
صاحبت عملية اغتيال الشهيد عمر النايف حالة من التعتيم الإعلامي، على الرغم من الاهتمام البالغ لوسائل الإعلام الوطنية والدولية، ولم تصدر أيّة تصريحات رسمية من الطرف البلغاري، سوى تصريحات رئيس الوزراء، بويكو بوريسوف الذي عبّر عن أسفه بشأن هذا الحادث الذي صادف عودته من زيارةٍ رسمية قام بها إلى إسرائيل. وكان قد أعلن مرّات عن وجود علاقة صداقة حميمة ومميّزة تربطه برئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو، ويخاطبه بلقبه المحبّب "بيبي".
وقد أطلقت السفارة الفسطينية في صوفيا تصريحات مقتضبة، اعتبرت فيها عمر النايف شهيد الوطن، وأعلنت أنّها بذلت جهدها لحمايته، واتهمت إسرائيل بالتورّط بتنفيذ هذه العملية. وقد أصدرت النيابة البلغارية تقريراً أوّلياً، ذكرت فيه أنّ الشهيد عمر النايف قضى نتيجة سقوطه من ارتفاع شاهق، وتعاطى قبل ذلك مسكّنات للمعدة، ولا يمكن البتّ بشأن سقوطه، إذا كان انتحاراً أو أن مجهولين دفعوه ليسقط من أعلى المبنى. ويمكن للجان التحقيق الجنائية قطع الشكّ باليقين، ولذلك تمّ تسجيل الجريمة ضدّ مجهول.
لجنة التحقيق الفلسطينية
حضرت إلى صوفيا لجنة تحقيق فلسطينية من رام الله، برئاسة وكيل وزارة الخارجية، تيسير
وقد تركت واقعة الاغتيال تساؤلات كثيرة، بشأن حقيقة العلاقات الفلسطينية البلغارية، فقد منعت السلطات البلغارية أخ الشهيد، كاشف النايف، ووفداً فلسطينياً، لإلقاء نظرة على جثمان الشهيد بعد يوم من نقله إلى المستشفى. فيما لم تتجرّأ السلطات البلغارية على معارضة مصادرة إسرائيل كل الأدلة والقرائن المتوفرة والموجودة في محيط منطقة تفجير الحافلة التي أقلّت سيّاحاً قادمين من إسرائيل في مطار سرافوفو في مدينة برغاس الساحلية. وأجرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تحقيقات موسّعة، وأشرفت على نشر المعلومات التي تريدها فقط، من دون أن تبلغ أحداً بالنتائج الأخرى التي توصّلت إليها. في المقابل، لم يحصل الطرف الفلسطيني سوى على الحدّ الأدنى من التعاون، ولم يتوفر المجال لمزيدٍ من الإجراءات القادرة على إجراء معاينة طبية ومهنية من الجانب الفلسطيني، لإظهار ملابسات الواقعة والكشف عن المتورّطين في هذا العمل الإجرامي وتحديد هوية الجاني.
وقد أصدرت عائلة النايف بياناً أعلنت فيه رفضها توجّهات اللجان إلى تحديد أسباب الموت، بما يخدم فرضية عدم تعرّض الشهيد لاعتداء خارجي، ومحاولة تبرئة السفارة الفلسطينية من مسؤولياتها بشأن عدم رفع مستوى الحماية في محيطي المبنى، الداخلي والخارجي. أمّا بشأن الطرف البلغاري، فيصعب تحميل الحكومة البلغارية المسؤولية في كلّ ما حدث، وعلى الرغم من معرفة الجميع بمكان وجود عمر النايف، إلا أنّ التصريح عن ذلك لم يتم رسمياً، ولا يمكن مطالبة الحكومة البلغارية بحمايته، وقد أصدر الادّعاء البلغاري مذكرة جلب له. عدا عن ذلك، كانت بلغاريا قد قدّمت لعائلة عمر الجنسية البلغارية والفرصة لمزاولة حياة كريمة.
يتم بسط كل هذه الحقائق، مع السؤال: لماذا فشلنا في حماية الشهيد عمر زايد النايف؟ وهل ستحمل السلطة الفلسطينية في رام الله المقصّرين الرسميين مسؤولية ما حدث؟ وهل ستتم إقالة ومحاسبة جميع المعنيين بتسهيل عملية الاغتيال؟ أم ستبقى الأمور على حالها، من دون أن يجرؤ أحد على القيام بأيّة عمليات إصلاح حقيقية، بشأن مهنية السفارات الفلسطينية في الخارج.