يشكل الاقتصاد غير الرسمي في الوطن العربي، سواء في غرب آسيا أم في شمال إفريقيا، حوالى 65% من الاقتصاد الكلي، بموجب تقديرات الباحثين الأجانب عام 2014. وتظهر هذه الدراسات أن معظم هذا الاقتصاد يتركز في المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
والسؤال الذي يجب أن يُطرح علينا باستمرار هو الأسباب التي تؤدي إلى هذه الحالة، وهل هي ظاهرة مفيدة، وهل هنالك سبب لانشغال الحكومات عن مراقبة هذه النشاطات غير الرسمية، أم هل هنالك تعاون فيما بينهما؟
أما الأسباب التي تدعم بروز القطاع غير الرسمي، أو اقتصاد الظل، فهي منح قطاع في الاقتصاد يُراد التركيز عليه إعفاءات كثيرة واسعة، لأن هذا القطاع لا يستطيع أن يعيش بدون هذه الإعفاءات وحتى المعونات.
ولعل أبرز هذه القطاعات هو قطاع الزراعة الذي يحظى بمعاملة خاصة، لأنه مرتبط بالقوت والغذاء، ولأن هذا القطاع ما يزال يشكل مصدر عيشٍ لنسبة عالية من السكان في الوطن العربي، خصوصاً في الدول ذات المساحات الكبيرة.
وبإعفاء قطاع الزراعة من الترخيص، ومن الضرائب على الدخل، أو إعفاء المستوردات من المستلزمات الزراعية من الجمارك، والسماح لصادراتها بالخروج من البلد المعني بدون ضرائب على الصادرات، يجعل هذا القطاع برمته قطاعاً غير رسمي، وإن كان يعمل بحريةٍ تحت بصر الحكومة ورعايتها.
أما خارج قطاع الزراعة، أو الاتجار بالمنتجات الزراعية، فهو قلّما يعمل في إطار الترخيص. والسبب أن كلفة الوساطة في قطاع الزراعة كبيرة، والفرق بين السعر الذي يبيع به المزارع إنتاجه والسعر الذي يشتري فيه المستهلك تلك السلع كبير جداً، ولصالح الوسطاء.
ومن هنا، يلجأ كثيرون إلى البيع المباشر للمستهلك، إما داخل المزرعة، أو على جوانب الطرق، أو عند الإشارات المرورية، أو بالقرب من الأماكن المزدحمة.
ومن هنا، يصبح الاتجار بالسلع الزراعية وسيلةً مغريةً لتحقيق دخل أكبر للمنتج، وتملص من الكلف الأساسية الثابتة كالإيجار، والكهرباء، والرخص، والرسوم، ومراقبة المواصفات والمقاييس، وغيرها.
وينطبق الكلام نفسه على تجارة المواد الغذائية المصنعة. صحيح أن إنتاجها في المصانع الكبيرة يخضع للرسوم والضرائب والرقابة، لكن إنتاجها في المنازل، خصوصاً من سيدات البيوت الباحثات عن دخل إضافي، أو المصانع الصغيرة في الأسواق الخلفية، يشكل جزءاً من السوق غير الرسمي.
وتباع هذه المواد أيضاً بدون رقابة أو ضرائب مباشرة عن طريق التوصية المسبقة، أو عن طريق الاتفاق مع بعض المحلات التجارية، أو مباشرة على الطرقات وبالطرق على أبواب المنازل.
وينطبق التحليل ذاته على البضائع المعاد استخدامها، ابتداءً من السيارات والأثاث القديم والملابس (الباله)، وغيرها، وهذه تشترى من البيوت، ويعاد إصلاحها وتحسين مظهرها في أماكن غير مرخصة، ويعاد بيعها بالطريقة نفسها في أسواق تكون أحياناً مفتوحة، وأحياناً متنقلة حيث تقل الرقابة.
أما في مجال الخدمات، فالأمر لا يقل حجماً وأهميةً عن مجال التعامل بالسلع والبضائع. فالمحامون والأطباء والعيادات غير المرخصة تقدم خدماتها للزبائن بدون سجلات وقيود، ويتم تسوية الدفع مقابل هذه الخدمات نقداً بدون شيكات أو كمبيالات، وهنالك أطباء يجرون عمليات في المستشفيات، حيث يدفع جزء من أجر الطبيب نقداً، ويسدد الباقي من خلال فاتورة المستشفى.
والسؤال الأهم: هل من المعقول أن يكون حجم هذا الاقتصاد غير الرسمي كبيراً إلى هذا الحد، ومنتظماً من حيث الاستمرارية عبر الزمن، والدوام في المكان نفسه، ويبقى بعيداً عن عيون المؤسسات الرسمية. أم أن أعمالاً كثيرة تنجز بالتعاون مع جهات حكومية، تتلقى دفعات وهدايا لحماية هذه الأعمال من الإجراءات العامة والمداهمات الأمنية.
وتظهر دراساتٌ أن رسميين كثيرين يشاركون في هذه الأعمال، إما بدفعات شهرية منتظمة، أو أنهم يفرضون إتاوات على أصحاب هذه النشاطات مقابل حمايتهم.
ما ذكر أعلاه يبقى محصوراً في إطار النشاطات التي يمكن ترخيصها وإخضاعها للرسوم والرقابة، لأنها في الأصل نشاطات مسموح بها. ولكن كلفة ترخيصها ورسومها ووساطتها عالية، إلى حد يغري بنقلها من القطاع الرسمي إلى غير الرسمي.
وبعض المؤسسات في القطاع الرسمي تهرّب جزءاً من إنتاجها السلعي والخدمي إلى الأسواق غير الرسمية، حتى تدفع رسوماً وضرائب أقل، خصوصاً عندما تفرض الحكومة رسوماً عالية ما يجعل تهريبها مجدياً. ومن الأمثلة على ذلك السجائر والكحول والسلع الكمالية.
ولكن هنالك اقتصاد كبير يسمى قطاع الجريمة المنظمة الذي يبرز تحت إطار هذه الترتيبات، مستفيداً من حالة الفوضى والتفكك في الاقتصاد والناجمة عن اتساع السوق غير الرسمية.
ومن هذه الأمثلة بالطبع التهريب عبر الحدود لسلع مسموح المتاجرة بها، كالسجائر والعطور والكحوليات، وهنالك تجارة أدهى وأمرّ، وهي التعامل بالسلع والخدمات المحظور التعامل معها أصلاً مثل المخدرات بأنواعها، والأعضاء، والأشخاص، والسلاح، والعملات وغيرها. وهذه تشكل على صغر نسبتها في السوق غير الرسمية جزءاً كبيراً من قيمة المعاملات في اقتصاد الظل.
وقد ساهم الربيع العربي في رفع نسبة الاقتصاد غير الرسمي. وفي العادة، تكون الحروب والقلاقل الداخلية والهجرات القسرية وضعف الأمن وعدم انتظام الأسواق فرصة سانحة كبيرة للمتعاملين بالقطاع غير الرسمي لكي يتوسّعوا، فالمدخلات المطلوبة متاحة، وخصوصاً الناس العاطلون عن العمل والجاهزون للقيام بأي وظيفة، طالما أنها تضع الطعام على موائدهم.
وبغض النظر عن الفوائد المرجوة والفعلية من هذه الأسواق، إلا أنها من مظاهر التفكك، وإضعاف للحكومات ومواردها، ونشر للجريمة، وانعدام الخلق، وتفشّي الجرائم والمهربات والمخدرات، وتقليل للهيبة.
وكل قول عن إصلاح اقتصادي أو مالي أو نقدي لا يسعى إلى إعادة النظام والانتظام للاقتصاد سيحصر هذه الإصلاحات في جزء محدود من الاقتصاد الكلي، ما يجعل أثر هذه الإصلاحات محدوداً.