ارتبطت المدارس الألسنية الحديثة بِسائر العلوم الإنسانية، فصارت لها بمثابة الأداة التحليلية التي تُعين على استكشاف العلاقات بين اللغة والظواهر الاجتماعية المدروسة، نظرا إلى أنَّ الخطابَ، إنتاجًا لسانيًا، يقع في صميمها جميعًا، ويحكم إنتاج المعنى فيها.
ومن مظاهر هذا التلاقي، ما حصل بين الألسنية ومجال الحقوق والقانون، لا بحُسبانه مجموع قواعدَ ملزمة، بل نظامَ علاماتٍ، يتألف من مفردات وملفوظات، وهكذا ظهر فَرعٌ من علوم اللسان جديدٌ، أُطلِق عليه اسم: Jurilinguistique وهو ما يمكن ترجمته بألسنية القانون. فما هي أهم مَباحث هذا العلم الناشئ؟ وماهي فائدته؟ وما مكانته في المشهد الثقافي العربي؟
يعود الفضل في نشأة هذا الفرع الألسني إلى رجل القانون الفرنسي جيرار كورنو (1927-2007) الذي خَصَّص عدةَ مؤلفاتٍ للبحث عن تأثير اللغة في إنشاء القوانين، وارتباط الحقوق بقواعد اللغة ومَكنزها المعجمي، ومن ذلك إشرافه على "المُعجم القانوني" (أكثر من عشرين طبعة)، إلى جانب صياغة النصوص القانونية، وشرحها وتبويبها.
توَّج كورنو أعماله الغزيرة بكتاب تأسيسي-نظري عنوانه: "الألسنية القانونية"، أمضى فيه خمسة عشر عامًا (1990-2005)، حَدَّد خلالها مجال هذا العلم المُستحدث، ومباحثه وثمراته، فكان أن قسَّم الدوائر اللغوية المتصلة بالقانون إلى ثلاثٍ: حلل في الأولى المصطلحات القانونية باعتبارها "مواضعة داخل مواضعة أشمل"، ومفردات ذات حمولة دلالية صارمة تدخل في علاقات ائتلافية واختلافية مع بعضها البعض، ومع مفردات اللسان الأخرى عبر مسارات التخصيص والتعميم، الإطلاق والتقييد.
وتطرَّق في الثانية إلى الملفوظ القانوني مُصنفًا إياه إلى خطابٍ تشريعي، وخطابٍ قضائي وخطابٍ صِيغي يشمل القواعد ذات التأثير الإنجازي. كما تناول، في هذا التأصيل، الآليات التي تجعل من الكلام فعلاً قانونيًا له تبعات ملموسة في فرض القيم وتنظيم المجتمع.
وما تزال الأعمال متواصلة في هذا الحقل الواعد لتعميق الأبحاث في شبكة التقاطعات بين مَجاليْ: القانون والكلام، ولا سيما بعد اكتمال الألسنية المعرفية cognitive والتداولية، فضلًا عن تطورات نظرية الترجمة، وتطبيق مقولاتها الإجرائية على الفِعل-الكلامي القانوني.
وأما فيما يتعلق بالساحة الثقافية العربية، فنلاحظ وجود مفارقة كُبرى فيها: طَرفها الأول: ما عَرفه المشهد الاصطلاحي من وَفرة كبيرة في المفردات القانونية حيث انبثق بعضها من التراث الفقهي الغزير، وساد البعض الآخر بفضل ترجمة المَجلات والمساطر والمدونات الأجنبية، حتى صار لكل المفاهيم الواردة من أوروبا أو أمريكا، مقابلات عربية دقيقة وشائعة.
وأما طرفها الثاني، فهو ما نلاحظه من ضمورٍ واضحٍ في التفكير النظري، المعتمد على مُنجزات الألسنية، والذي من المفترض أن يدور حول القانون مصطلحًا وخطابًا، فلم يكتمل هذا النوع من المباحث في الدراسات العربية، ولم تُخصص له جامعاتنا، على كثرة ما يعقد فيها من ندواتٍ وأبحاث، إلا حَيِّزًا محدودًا، فظلَّ النظر في آليات التوليد المعجمي ودرس العلاقات الصورية بين الخطاب القانوني وبيئته السوسيولوجية، هامشياً للغاية.
ومن شأن هذه الهوة بين التضخم المصطلحي القانوني وضمور التفكير النقدي عنه، أن تزيد من فَوضى المصطلحات، فتتداخل إحالاتها وتُشَلَّ طاقاتها الإيحائية، وتتشتت جهود توحيد هذا الحقل الاصطلاحي بين مختلف البلدان العربية، (ومن أمثلته الشهيرة أنَّ كلمة Perpétuité تُترجم بثلاث مقابلاتٍ: السجن مَدى الحياة، السجن بقية العمر، السجن المُؤبد).
ولا شكَّ أنَّ تشجيع الألسنية القانونية العربية وإنضاجها في الجامعات ومؤسسات الدولة سيعين على تعرية المزايدات السياسية، والتوظيفات الإيديولوجية التي قد تستغل الغموض المميز للنصوص القانونية لبلوغ مآربها، كما سيسمح بفهم أكبر لآليات اشتغال هذا النوع من الخطاب (الغامض/الصارم في ذات الآن) ضمن المعيش اليومي، وقد يفضي أخيرا إلى التقريب بين الثقافة القانونية العربية ومؤسسات الحقوق العالمية وهياكلها.
وستبقى هذا التوازن بين التوليد والتفكير من الضرورات الملحة في عالمٍ غدا فيه القانون، وهو بيد الدولة، من أعتى وسائل الإكراه، لأنَّ الألسنية، كمنهجٍ للتحليل وسلاحٍ فكري، كفيلة بالكشف عن تلاعب السلطة باللغة، ولا سيما القانونية منها.