17 أكتوبر 2024
الإسلاميون المغاربة بعد إعفاء بنكيران
في وقتٍ كانت تلوح فيه بوادر انفراج في مشاورات رئيس حكومة تصريف الأعمال المغربية، عبد الإله بنكيران، مع الأحزاب السياسية المعنية بتشكيل الحكومة المقبلة، قرّر الملك محمد السادس إعفاءه، وتعيين سعد الدين العثماني رئيساً جديداً للحكومة. حدث ذلك، بعد أن تردّد أن بنكيران كان يستعد لتقديم تقرير مفصل إلى الملك، بشأن مسار المفاوضات التي خاضها طوال الأشهر الخمسة الماضية، خصوصاً فيما يتعلق بمسألة إشراك الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في الحكومة، والتي ظلت أبرز نقطة خلافٍ بينه وبين الأحزاب الأخرى.
ضمن هذه الوقائع المتسارعة، تبادل الفاعلون رسائل مختلفة، عكست، في مجملها، ما يعيشه الحقل السياسي من تجاذباتٍ، أفرزها الصعود السياسي والانتخابي للإسلاميين المغاربة، على امتداد الأعوام الفائتة، ورغبة السلطة في تحجيم هذا الصعود، والحد من امتداداته المجتمعية.
بالنسبة للمؤسسة الملكية، بدا تدخل الملك محمد السادس صحيحاً من الناحية الدستورية، هذا طبعاً إذا فهمنا طبيعة الدستورانية المغربية، وخصائصها السوسيوثقافية، فالدستور لا ينص على إعفاء رئيس الحكومة المعين في حالة فشله في تشكيل الحكومة، كما حدث مع بنكيران، لكنه، في الوقت نفسه، ينص في الفقرة الأولى من الفصل 42 على أن ''الملك، رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي..''.
يبدو جلياً أن قرار الملك إعفاء بنكيران لا يعوزه السند الدستوري والقانوني، الشيء نفسه
بالنسبة لتعيين العثماني، حيث بدا منسجماً مع ''الاختيار الديمقراطي''، سواء ضمن الفصل السابق، أو ضمن مقتضيات الفصل 47 فيما يخص اختيار رئيس الحكومة من الحزب الذي تصدر الانتخابات التشريعية، غير أن قراءةً أعمق ستفضي بنا إلى ما هو أبعد من ظاهر الوثيقة الدستورية، والذي تشكله الجوانب الثقافية البنيوية التي تحكم النظام السياسي المغربي في تحولاته المختلفة، وهي جوانب تعكس سطوة التقليد في مواجهة موارد الحداثة السياسية، الأمر الذي يعزّز المشروعية التقليدية على حساب المشروعية الديمقراطية التي يفترض أن دستور 2011 جاء ليدفع بها إلى الأمام.
من المعروف أن المشروعيات التقليدية تنتج، بطبيعتها، أنظمةً مغلقة لا تسمح بتعدّد مواقع إنتاج القوة السياسية وتنوعها، وتنزع دائماً نحو التكثيف الرمزي والثقافي للسلطة الحاكمة، ولا تسمح ببروز سلطات مضادة، إلا تحت الضغط، وضمن حدود ضيقة جداً ومتحكّم فيها. من هنا، ندرك أن الأداء السياسي والتواصلي لبنكيران، بما له وعليه، ما كان ليروق الجهات والدوائر الأكثر تأثيراً داخل حلقة السلطة، لا سيما بعد حديثه المتواتر عن التحكّم ووجود ''دولتين في المغرب'' وجيوب المقاومة وغيرها.
في السياق نفسه، فإن تعيين العثماني رئيساً للحكومة يبدو بمثابة محاولة إيجاد جناح معتدل داخل حزب العدالة والتنمية، لا يمثل عنصر توازن فقط بقدر ما يمثل تعزيزاً لاستراتيجية السلطة في تعاطيها مع الأحزاب السياسية، بالعمل على إدماج نخبها، أو قطاع منها على الأقل، في هياكلها وبنياتها في أفق الحد من قوة هذه الأحزاب وحضورها، وهو ما حدث، كما هو معروف، مع أحزاب الحركة الوطنية، بعد تجربة التناوب ما بين 1998 و2002.
وإذا كانت هياكل الحزب الإسلامي قد أكّدت مساندتها خيارات بنكيران التفاوضية، على الرغم من إعفائه من الملك، ما يعني تضييق هامش الحركة أمام العثماني، وضرورة تقيده بخط الحزب في مشاوراته، فإن ما يتردّد عن وجود تيار داخل الحزب مستعد لقبول الاتحاد الاشتراكي ضمن التحالف الحكومي، تغليباً للمصلحة الوطنية، يؤكد أن "البلوكاج" السياسي لم يكن غير إنهاك ممنهج لبنكيران، تمهيداً لإزاحته والحد من نفوذه السياسي، والإتيان بشخصيةٍ مرنةٍ وأكثر قدرةً على بناء توافقات معينة.
كانت مشاورات الأشهر الخمسة المنصرمة كافيةً لإبراز محدودية الخيار التحديثي لدى السلطة
والنخب، وظهر بالملموس أنه لم يعد لدى معظم أحزاب الحركة الوطنية ما تقدمه، وباتت تشكل عبئاً على تاريخها. كما أن أحزاب السلطة باتت تشكل، بدورها، عبئاً على الأخيرة، بالنظر إلى كلفة استمرارها، من خلال عجزها عن الاستمرارية خارج دوائر السلطة وامتيازاتها، حيث لم يؤثر عليها تعاقب الأجيال داخل هياكلها، ما يكرّس صورتها النمطية لدى فئاتٍ واسعة من الرأي العام.
لا يبدو ما حدث ويحدث غريباً عن تركيبة النظام السياسي المغربي الذي يثبت، مرة أخرى، قدرته على إعادة إنتاج بنياته، بما لا يمسّ نواته الصلبة، وآليات اشتغاله ضمن انفتاح نسبي، تتسع أو تضيق هوامشه، حسب الظرف الإقليمي والدولي، وتعرجات ميزان القوى الداخلي. هذا يعني أن الاختيار الديمقراطي الذي ينص عليه الدستور يظل ''أفقاً سياسياً'' تعترف السلطة بأهميته وحيويته في الوقت الراهن، لكنها تدرك، في الوقت نفسه، أن طبيعة مكوناتها وثقافتها تجعل من الانخراط الكامل فيه أمراً مكلفاً ومحفوفاً بالمخاطر.
تذهب معظم المؤشرات في اتجاه أن سعد الدين العثماني سيشكل الحكومة من الأغلبية السابقة مع احتمال إشراك الاتحاد الاشتراكي، ضمن توافق مرحلي محكم ومدروس، خصوصاً أن السلطة و"العدالة والتنمية" غير مستعدين لسيناريو التحاق الإسلاميين بالمعارضة، بالنظر لكلفته السياسية الكبيرة حالياً. لكن، في الوقت نفسه، فإن سيناريو تشكيل حكومة بمشاركة الاتحاد الاشتراكي قد يكون مكلفاً للحزب الإسلامي، تنظيمياً وسياسياً.
ضمن هذه الوقائع المتسارعة، تبادل الفاعلون رسائل مختلفة، عكست، في مجملها، ما يعيشه الحقل السياسي من تجاذباتٍ، أفرزها الصعود السياسي والانتخابي للإسلاميين المغاربة، على امتداد الأعوام الفائتة، ورغبة السلطة في تحجيم هذا الصعود، والحد من امتداداته المجتمعية.
بالنسبة للمؤسسة الملكية، بدا تدخل الملك محمد السادس صحيحاً من الناحية الدستورية، هذا طبعاً إذا فهمنا طبيعة الدستورانية المغربية، وخصائصها السوسيوثقافية، فالدستور لا ينص على إعفاء رئيس الحكومة المعين في حالة فشله في تشكيل الحكومة، كما حدث مع بنكيران، لكنه، في الوقت نفسه، ينص في الفقرة الأولى من الفصل 42 على أن ''الملك، رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي..''.
يبدو جلياً أن قرار الملك إعفاء بنكيران لا يعوزه السند الدستوري والقانوني، الشيء نفسه
من المعروف أن المشروعيات التقليدية تنتج، بطبيعتها، أنظمةً مغلقة لا تسمح بتعدّد مواقع إنتاج القوة السياسية وتنوعها، وتنزع دائماً نحو التكثيف الرمزي والثقافي للسلطة الحاكمة، ولا تسمح ببروز سلطات مضادة، إلا تحت الضغط، وضمن حدود ضيقة جداً ومتحكّم فيها. من هنا، ندرك أن الأداء السياسي والتواصلي لبنكيران، بما له وعليه، ما كان ليروق الجهات والدوائر الأكثر تأثيراً داخل حلقة السلطة، لا سيما بعد حديثه المتواتر عن التحكّم ووجود ''دولتين في المغرب'' وجيوب المقاومة وغيرها.
في السياق نفسه، فإن تعيين العثماني رئيساً للحكومة يبدو بمثابة محاولة إيجاد جناح معتدل داخل حزب العدالة والتنمية، لا يمثل عنصر توازن فقط بقدر ما يمثل تعزيزاً لاستراتيجية السلطة في تعاطيها مع الأحزاب السياسية، بالعمل على إدماج نخبها، أو قطاع منها على الأقل، في هياكلها وبنياتها في أفق الحد من قوة هذه الأحزاب وحضورها، وهو ما حدث، كما هو معروف، مع أحزاب الحركة الوطنية، بعد تجربة التناوب ما بين 1998 و2002.
وإذا كانت هياكل الحزب الإسلامي قد أكّدت مساندتها خيارات بنكيران التفاوضية، على الرغم من إعفائه من الملك، ما يعني تضييق هامش الحركة أمام العثماني، وضرورة تقيده بخط الحزب في مشاوراته، فإن ما يتردّد عن وجود تيار داخل الحزب مستعد لقبول الاتحاد الاشتراكي ضمن التحالف الحكومي، تغليباً للمصلحة الوطنية، يؤكد أن "البلوكاج" السياسي لم يكن غير إنهاك ممنهج لبنكيران، تمهيداً لإزاحته والحد من نفوذه السياسي، والإتيان بشخصيةٍ مرنةٍ وأكثر قدرةً على بناء توافقات معينة.
كانت مشاورات الأشهر الخمسة المنصرمة كافيةً لإبراز محدودية الخيار التحديثي لدى السلطة
لا يبدو ما حدث ويحدث غريباً عن تركيبة النظام السياسي المغربي الذي يثبت، مرة أخرى، قدرته على إعادة إنتاج بنياته، بما لا يمسّ نواته الصلبة، وآليات اشتغاله ضمن انفتاح نسبي، تتسع أو تضيق هوامشه، حسب الظرف الإقليمي والدولي، وتعرجات ميزان القوى الداخلي. هذا يعني أن الاختيار الديمقراطي الذي ينص عليه الدستور يظل ''أفقاً سياسياً'' تعترف السلطة بأهميته وحيويته في الوقت الراهن، لكنها تدرك، في الوقت نفسه، أن طبيعة مكوناتها وثقافتها تجعل من الانخراط الكامل فيه أمراً مكلفاً ومحفوفاً بالمخاطر.
تذهب معظم المؤشرات في اتجاه أن سعد الدين العثماني سيشكل الحكومة من الأغلبية السابقة مع احتمال إشراك الاتحاد الاشتراكي، ضمن توافق مرحلي محكم ومدروس، خصوصاً أن السلطة و"العدالة والتنمية" غير مستعدين لسيناريو التحاق الإسلاميين بالمعارضة، بالنظر لكلفته السياسية الكبيرة حالياً. لكن، في الوقت نفسه، فإن سيناريو تشكيل حكومة بمشاركة الاتحاد الاشتراكي قد يكون مكلفاً للحزب الإسلامي، تنظيمياً وسياسياً.