حساباتُ التصعيد في الجبهة اللبنانية
تتزايد احتمالات انزلاق المواجهة بين إسرائيل وحزب الله في لبنان إلى حرب شاملة، في ظلّ قناعة راسخة داخل المنظومة الإسرائيلية، بمختلف أطيافها السياسية والأمنية والعسكرية، أنّ ما ستؤول إليه هذه الجولة من الصراع، في غزّة وجنوب لبنان، سيحدّد مستقبلها.
حرصا، حزب الله وإسرائيل، منذ بداية العدوان على قطاع غزّة، على الحفاظ على قواعد الاشتباك، على الرغم من استمرار القصف المُتبادَل بينهما طوال الأشهر الفائتة، كلٌّ وفق حساباته؛ فالحزب كان يدرك أنّ حفاظه على هذه القواعد يندرج ضمن التزاماته المُقترنة بالمعادلة السياسية اللبنانية بتعقيداتها الطائفية المعلومة، وفي الوقت ذاته، كان يدرك أنّ عدم فتح جبهة لبنانية لإسناد غزّة يسائل شرعيته، باعتباره تنظيماً رئيساً في محور المقاومة الذي تقوده إيران. وقد نجح، نسبياً، في استدراج إسرائيل إلى حرب استنزاف محدودة، بما حافظ نسبياً على قواعد الاشتباك هاته. أمّا بالنسبة إلى إسرائيل، فإنّ إدراج ''إعادةَ سكّان الشمال إلى بيوتهم'' ضمن أهداف حربها على غزّة، وضع حكومة نتنياهو في مواجهة مأزق استراتيجي، ذلك أنّ الانجرار إلى حرب استنزاف على الواجهتَين الشمالية والجنوبية، فضلاً عن تكاليفها الاقتصادية والسياسية، سيعمّق التصدّعات الداخلية الإسرائيلية، أمام الفشل في استعادة الرهائن المُحتجَزين في غزّة، والقضاء على المقاومة الفلسطينية. من هنا، دلالةُ الضربة الاستباقية التي وجّهتها لحزب الله باستهداف أجهزة الاتصال اللاسلكي التابعة له، وتصفيةِ نُخْبَةٍ وازنةٍ من قياداته العسكرية، في عملية أكّدت مرّة أخرى تفوّقها التكنولوجي والعلمي والاستخباري.
تتّجه إسرائيل إلى توسيعٍ مدروسٍ لنطاق ضرباتها للحزب بشكل يُحقّق لها هدفَين استراتيجيَين على صلة وثيقة بحربها على غزّة. أولاً، فكّ الارتباط بين الجبهتَين الشمالية (جنوب لبنان) والجنوبية (قطاع غزّة)، بغاية تقويض ما يعرف بـ''وحدة الساحات''، وبالتالي استعادة قوّة الردع في مواجهة الحزب، ومن خلفه إيران، وثانياً إعادة الآلاف من سكّان الشمال إلى بيوتهم. إنّ نجاح حكومة نتنياهو في تحقيق هذين الهدفَين، سيُخفّف الخناق عليه داخلياً، ولو بشكل نسبي، ويوسِّع أمامه هامش المناورة في مفاوضات وقف إطلاق النار في غزّة.
في الوقت ذاته، هناك مخاوف في إسرائيل من أنّ دخول حرب استنزاف طويلة مع حزب الله، خاصّة إذا ما اتُّخذ قرار الاجتياح البري، ستكون له تداعيات جيوسياسية لا تصبّ في مصلحتها؛ فالحرب على قطاع غزّة لم تُحسم بعد، والمقاومة الفلسطينية لا تزال تناور وتُكبّد قواتها خسائرَ بين حين وآخر، والمحتجزون لا يزالون لديها، ذلك كلّه يعني، بقدرٍ أو بآخر، أنّ تورط إسرائيل في حرب استنزاف في واجهتَين، من دون رؤية استراتيجية واضحة، قد يفتح الباب أمام سيناريوهات كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر، ما يتردّد عن دخول عشرات الآلاف من المقاتلين القادمين من سورية والعراق واليمن إلى الجولان المحتلّ للمشاركة في القتال إلى جانب حزب الله.
يبدو أنّ إسرائيل، إلى غاية كتابة هذه السطور، تسعى من خلال غاراتها على جنوب لبنان إلى استعادة قوّة الردع في مواجهة حزب الله، لكن مع إبقاء خطّ العودة مفتوحاً، حتّى لا يخرج الوضع عن السيطرة، وتتحوّل المواجهة حرباً شاملةً يصعب التكهّن بمآلاتها. بيد أن تحقُّق ذلك يتطلّب ضوءاً أخضرَ أميركياً صريحاً، وهو ما يبدو مُستبعَداً بالنظر لمخاوف الإدارة الأميركية من انزلاق الإقليم إلى حرب شاملة لا تُبقِي ولا تذر. وفي المقابل، يعي حزب الله أنّ اتّساع نطاق المواجهة الحالية سيكون مكلفاً جدّاً بالنسبة إليه، فدفعُ تكاليف الحرب، الاقتصادية والبشرية، لن يقتصر عليه تنظيماً موالياً لإيران، بل سيمتدّ إلى لبنان بأسره، وهو ما يُهدّد وضع الحزب ومستقبله في السياسة اللبنانية.
سيكون لتغيير قواعد الاشتباك بين إسرائيل وحزب الله تداعيات على النفوذ السياسي والمذهبي لإيران في الإقليم؛ إيران التي لا يزال حلفاؤها، قبل خصومها، ينتظرون ''ردَّها المُدوِّيَ'' على اغتيال إسرائيل القائد الفلسطيني الشهيد إسماعيل هنيّة، في أراضيها في 31 يوليو/ تمّوز المنصرم.