19 أكتوبر 2024
الإسلاميون يؤسسون للعلمانيّة
انتهت مقولة إن الإسلاميين مستبعَدون من المشاركة في السياسة أو الحكم، فقد شاركوا في مصر وتونس. كان الإسلاميون في مصر ممثَّلين في مجلس النواب قبل الثورة، طبعاً هناك تجربتا المغرب والأردن، أي كانوا جزءاً من النظام السياسي؛ بقيّة الأنظمة عادتْهم بالكامل. الخيار العسكري لعبد الفتاح السيسي لم يكن السبب الوحيد باستبعاد الإخوان المسلمين وعزل محمد مرسي، بل إن ممارسات "الإخوان المسلمين" ذاتها كانت أحد الأسباب؛ فهم كانوا يؤسّسون للسيطرة على الجيش ومؤسسات الدولة، وأبعدوا عنهم حتى السلفيين. ساهمت الأخونة هذه في عزلهم وسهلت للجيش الانقلاب عليهم وعلى الثورة، وعلى بدايات التجربة الديمقراطية المصرية.
كان الحضور الكبير للإسلاميين في الصراع السياسي بسبب المظلومية التاريخية قبل العام 2011، وبسبب فشل المشروع اليساري والقومي، وكان هناك رضىً أميركيّاً وأوروبيّاً لجهة أنهم حركات إسلاميّة معتدلة وضد الجهاديّة؛ نضيف كذلك توظيفهم الوعي التقليدي الديني في سياق محاولات سيطرتهم على الثورات، وموافقة هذا الوعي على إعطائهم فرصةً ليحكموا، ولا سيما أن الناس عانوا الأمرّين من الأنظمة قمعاً وإفقاراً، وبالتالي، ولكل هذه العوامل توسّع حضورهم بعد 2011.
الدورُ المُتسِع للإسلاميّين من سلفيّين وجهاديّين وتيارات أقل تشدّداً في الدول العربية "الثورية"، وبسبب ممارسات الإسلاميّين الهيمنيّة والتفرديّة، وتحديداً الجهاديّة والسلفيّة، فإنّ وعياً عربيّاً بدأ يتشكّل بعيداً عن المظلوميّة هذه، ويرى أنّهم تيارات سياسيّة ساعية إلى السلطة والتفرّد والاستئثار بها، وبالتالي، راح الوعي التقليديّ يَفصلُ بين الدينيّ والمدنيّ، وكذلك أصبحت القوى السياسيّة الليبراليّة والحداثيّة عامة أكثر حساسيّةً إزاء الإسلاميّين، فقد وقفت مع حقهم في المشاركة السياسيّة، وأغمضت العين كثيراً عن ممارساتهم الهيمنيّة، وبالتالي، أضاع الإسلاميون فرصة ثمينة في تغيير الحياة السياسيّة العربيّة، وأن يصبحوا شركاء الآخرين في تأسيس ديمقراطيّة عربيّة.
أبدى الإسلاميون تبعيّةً كبيرة لدول خارجيّة، وتواصلاً أكبر مع إسلاميّين آخرين في دول
أخرى، بدلاً من مواطني بلدانهم، ولم ينشغلوا بمشروعٍ وطنيّ ينهض ببلادهم الأصلية. أظهر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وعكس سياسات بلاده نحو تصفير المشكلات حينها مع المحيط، محاولةً لربطِ الدول العربية بتركيا باسم الإسلام، وهناك من فسّر خطوته تلك كأنها عودة للعثمانيّة مجدّداً، عدا عن فتحه المجال واسعاً للإسلاميّين للعمل من الأرض التركيّة؛ لدى الرئيس أردوغان تجربة خاصة في دعم حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وفك عزلة غزة، ومحاولة إنهاء الخلاف بين النظام السوري و"الإخوان" قبل الثورة وبعدها؛ وبالتالي، لم يستطع أردوغان، وهو سليلُ تجربةٍ ديمقراطيّةٍ علمانيّةٍ في تركيا، أن يفصلَ، بشكلٍ كبيرٍ، بين الأسلمة والدين، وحاول توظيف الأخير من أجل أسلمة السياسة. ومن هنا، نجد محاولاته الخارجيّة لإعادة ربط الدول العربية بتركيا، وكذلك محاولاته الاستفرداية في الحكم في تركيا، وهناك تقاريرٌ كثيرةٌ تُفيدُ بتراجع الحريات العامة والممارسات الديمقراطيّة، ولا نقصد فقط محاولاته تغيير نظام الحكم من برلمانيٍّ إلى رئاسيٍّ.
شذّت حركة النهضة في تونس عن عموم فروع الإخوان المسلمين، وقطعت بالكامل مع التجربة الجهاديّة والسلفيّة، حيث رفضت صلات كثيرة بين الدعويّ والسياسيّ، وتتوالى خطواتها بهذا الاتجاه، وتقريباً يمكن القول إنها أصبحت خارج الإطار العام للإخوان المسلمين؛ ربما يعود الأمر إلى تجربةٍ تونسيّة خاصة، حيث كان الجيش مُهمشاً ورفض كل طموحات سياسيّةٍ، كما حال عبد الفتاح السيسي وسواه؛ ويُشكّل، في هذا السياق، وجود نقاباتٍ قويّة، وخروج زين العابدين بن علي سريعاً من تونس سبباً حقيقيّاً لتفادي إغراق تونس بالعسكرة أو بالأسلمة أو إيقاف الديمقراطية. طبعاً تستحق تجربة تونس القراءة الهادئة، وإن كانت خاصة بدمقرطة النظام السياسي، بينما لم تستطع تجاوز مشكلات تونس الاقتصاديّة، ووضعت حلولاً ليبراليّة، واستجلبت قروضاً لتفادي مشكلاتها الاقتصادية، كما يفعل السيسي تماماً، وهذا موضوع آخر، ولكنه من الأسباب الأساسيّة لتفجر الثورة فيها، وربما لتجدّدها في زمن لاحق، كحال بقية الدول العربيّة.
في سورية وليبيا، وربما لشدّة القمع المُمارس تاريخيّاً، حاول الإسلاميّون الاستفراد بالثورة.
وإذا كان انتشار الأسلمة واسعاً في ليبيا، فإن الأمر في سورية مختلف كثيراً؛ فهناك معارضة تاريخيّة قويّة على الرغم من محدوديّة وجودها السياسي، ولديها سجلٌ حافلٌ بالاعتقال، ولعقود متتاليةٍ، وهي تصنفُ ضمن التيارات اليساريّة والديمقراطيّة والقوميّة، وليس فقط الإسلاميّة، عدا عن بروز دورٍ كبيرٍ لشبابٍ ليبراليّ ويساريّ في كل المدن السورية، حينما بدأت الثورة. كان على الإسلاميّين السوريّين أن يقرأوا التاريخ جيّداً، ولا سيما أن كل تيارات المعارضة السورية، بما فيها الماركسية، لم تتخذ موقفاً مُتشنجاً منها، بل عكس ذلك حيث ندّدت بالقانون 49، والذي ينص على إعدام كل إخواني، وقد فتحوا لها المجال للعودة عبر المنتديات التي بدأت في 2003، وأصرّوا على أن يكون "الإخوان" ضمن إعلان دمشق 2005. عكس ذلك فعل "الإخوان"، فأصدروا وثائق تقول بالليبرالية والديمقراطية، وحينما انشق نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام التحقوا بجبهة الخلاص التي شكلها، وكذلك أوقفوا معارضة النظام، لأنّه وقف مع غزة، ولفك الحصار عنها، ووسّطوا أردوغان ليشكلوا مع النظام حكومة جديدة.
كرّروا الأمر عينه، حينما بدأت الثورة؛ ففي البداية، لم يقفوا معها. ولكن، ومع تبيّن أنّها ثورة حقيقيّة وتتوسع، التحقوا بها، وعقدوا اجتماعاً خاصاً بهم، ويبدو أنّه كان للبحث في كيفية الاستيلاء على الثورة. وقد هيمنوا لاحقاً على المجلس الوطني السوري، وحاولوا ذلك مع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وكذلك السيطرة على منظمات الإغاثة واشتراط التحزّب لهم، بل وشكلوا كتائب عسكريّة لاحقاً خاصة بهم.
أخطأ "الإخوان المسلمون" السوريون كثيراً، وتصرّفوا وفقاً لمنهج الثأر من النظام، ولم يهتموا بأصول العمل الديمقراطي، وأن هذه الثورة من أجل كل السوريين، وضرورة إغلاق ملف صراع الثمانينيات بشكل كامل. وأغرق النظام الثورة بالجهاديين وبالأسلمة وبالسلاح، وهذا ساهم بتصفية التيارات الديمقراطية في الثورة. وبتحوّل الثورة إلى حربٍ وصراعٍ إقليميٍّ ودوليٍّ، أصبحت كل الحركات السياسيّة هامشيّة بما فيها الإخوان المسلمون، وتقدمت السلفيّة والجهاديّة، وهي من تخوض الصراع ضد النظام، وحلفه الإيراني والروسي.
المهم، هنا، أنّ الإسلاميّين، وبسبب ممارساتهم الاستئثارية، أعطوا دفعة قويّة لتأسيس حركات علمانيّة وديمقراطيّة واسعة الانتشار في سورية، ولو همّشنا مجموعات الإسلام فوبيا، وعكسهم جماعات العلمانيّة فوبيا، نقول إنّ الحركات السياسيّة والمثقفين السوريين مَعنيون بصياغاتٍ نظريّةٍ، وبرؤى وبرامج سياسية تُنهي كل موقفٍ مُسبقٍ من بعضها، والتأسيس لنظامٍ سياسيٍّ ودولة مستقبليٍّة تستوعب الجميع؛ هذا يحتاج إلى الانطلاق من أبجديات الدولة الحديثة في المواطنة وشرعة حقوق الإنسان؛ فهل هذا ممكن؟
كان الحضور الكبير للإسلاميين في الصراع السياسي بسبب المظلومية التاريخية قبل العام 2011، وبسبب فشل المشروع اليساري والقومي، وكان هناك رضىً أميركيّاً وأوروبيّاً لجهة أنهم حركات إسلاميّة معتدلة وضد الجهاديّة؛ نضيف كذلك توظيفهم الوعي التقليدي الديني في سياق محاولات سيطرتهم على الثورات، وموافقة هذا الوعي على إعطائهم فرصةً ليحكموا، ولا سيما أن الناس عانوا الأمرّين من الأنظمة قمعاً وإفقاراً، وبالتالي، ولكل هذه العوامل توسّع حضورهم بعد 2011.
الدورُ المُتسِع للإسلاميّين من سلفيّين وجهاديّين وتيارات أقل تشدّداً في الدول العربية "الثورية"، وبسبب ممارسات الإسلاميّين الهيمنيّة والتفرديّة، وتحديداً الجهاديّة والسلفيّة، فإنّ وعياً عربيّاً بدأ يتشكّل بعيداً عن المظلوميّة هذه، ويرى أنّهم تيارات سياسيّة ساعية إلى السلطة والتفرّد والاستئثار بها، وبالتالي، راح الوعي التقليديّ يَفصلُ بين الدينيّ والمدنيّ، وكذلك أصبحت القوى السياسيّة الليبراليّة والحداثيّة عامة أكثر حساسيّةً إزاء الإسلاميّين، فقد وقفت مع حقهم في المشاركة السياسيّة، وأغمضت العين كثيراً عن ممارساتهم الهيمنيّة، وبالتالي، أضاع الإسلاميون فرصة ثمينة في تغيير الحياة السياسيّة العربيّة، وأن يصبحوا شركاء الآخرين في تأسيس ديمقراطيّة عربيّة.
أبدى الإسلاميون تبعيّةً كبيرة لدول خارجيّة، وتواصلاً أكبر مع إسلاميّين آخرين في دول
شذّت حركة النهضة في تونس عن عموم فروع الإخوان المسلمين، وقطعت بالكامل مع التجربة الجهاديّة والسلفيّة، حيث رفضت صلات كثيرة بين الدعويّ والسياسيّ، وتتوالى خطواتها بهذا الاتجاه، وتقريباً يمكن القول إنها أصبحت خارج الإطار العام للإخوان المسلمين؛ ربما يعود الأمر إلى تجربةٍ تونسيّة خاصة، حيث كان الجيش مُهمشاً ورفض كل طموحات سياسيّةٍ، كما حال عبد الفتاح السيسي وسواه؛ ويُشكّل، في هذا السياق، وجود نقاباتٍ قويّة، وخروج زين العابدين بن علي سريعاً من تونس سبباً حقيقيّاً لتفادي إغراق تونس بالعسكرة أو بالأسلمة أو إيقاف الديمقراطية. طبعاً تستحق تجربة تونس القراءة الهادئة، وإن كانت خاصة بدمقرطة النظام السياسي، بينما لم تستطع تجاوز مشكلات تونس الاقتصاديّة، ووضعت حلولاً ليبراليّة، واستجلبت قروضاً لتفادي مشكلاتها الاقتصادية، كما يفعل السيسي تماماً، وهذا موضوع آخر، ولكنه من الأسباب الأساسيّة لتفجر الثورة فيها، وربما لتجدّدها في زمن لاحق، كحال بقية الدول العربيّة.
في سورية وليبيا، وربما لشدّة القمع المُمارس تاريخيّاً، حاول الإسلاميّون الاستفراد بالثورة.
كرّروا الأمر عينه، حينما بدأت الثورة؛ ففي البداية، لم يقفوا معها. ولكن، ومع تبيّن أنّها ثورة حقيقيّة وتتوسع، التحقوا بها، وعقدوا اجتماعاً خاصاً بهم، ويبدو أنّه كان للبحث في كيفية الاستيلاء على الثورة. وقد هيمنوا لاحقاً على المجلس الوطني السوري، وحاولوا ذلك مع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وكذلك السيطرة على منظمات الإغاثة واشتراط التحزّب لهم، بل وشكلوا كتائب عسكريّة لاحقاً خاصة بهم.
أخطأ "الإخوان المسلمون" السوريون كثيراً، وتصرّفوا وفقاً لمنهج الثأر من النظام، ولم يهتموا بأصول العمل الديمقراطي، وأن هذه الثورة من أجل كل السوريين، وضرورة إغلاق ملف صراع الثمانينيات بشكل كامل. وأغرق النظام الثورة بالجهاديين وبالأسلمة وبالسلاح، وهذا ساهم بتصفية التيارات الديمقراطية في الثورة. وبتحوّل الثورة إلى حربٍ وصراعٍ إقليميٍّ ودوليٍّ، أصبحت كل الحركات السياسيّة هامشيّة بما فيها الإخوان المسلمون، وتقدمت السلفيّة والجهاديّة، وهي من تخوض الصراع ضد النظام، وحلفه الإيراني والروسي.
المهم، هنا، أنّ الإسلاميّين، وبسبب ممارساتهم الاستئثارية، أعطوا دفعة قويّة لتأسيس حركات علمانيّة وديمقراطيّة واسعة الانتشار في سورية، ولو همّشنا مجموعات الإسلام فوبيا، وعكسهم جماعات العلمانيّة فوبيا، نقول إنّ الحركات السياسيّة والمثقفين السوريين مَعنيون بصياغاتٍ نظريّةٍ، وبرؤى وبرامج سياسية تُنهي كل موقفٍ مُسبقٍ من بعضها، والتأسيس لنظامٍ سياسيٍّ ودولة مستقبليٍّة تستوعب الجميع؛ هذا يحتاج إلى الانطلاق من أبجديات الدولة الحديثة في المواطنة وشرعة حقوق الإنسان؛ فهل هذا ممكن؟