الاستبداد داء والشورى دواء

03 يناير 2020

(Getty)

+ الخط -
لم يتوقف الشيخ محمد الغزالي في بيان رؤيته حول خطورة الاستبداد، باعتباره جرثومة خبيثة تقتل معاني السياسة، وتفتك بكل مغازيها الهادفة إلى القيام على الأمر بما يصلحه، فيؤكد "ونحن نلحظ، دون كد، جرثومة خبيثة تفتك بالسياسة الإسلامية، وتدع فراغا سيئا بين الأمة والدولة، تلك هي طريقة اختيار الحاكم الذي يلي الأمور، ويقود الأمة إلى ما لا تعرف وتقرّ من أهداف، ونحن نريد استئصال هذه الجرثومة، لا تركها، والتغلب على ما تنشئ من علل وأوجاع"، وربما هذا ما دعا الغزالي إلى اعتبار "الاستبداد السياسي.. ليس عصيانا جزئيا لتعاليم الإسلام، وليس إماتةً لشرائع فرعية فيه، بل هو إفلات من ربقته ودمار على عقيدته"، ".. إن الاستبداد السياسي داء دوى، وليس أسوأ منه إلا تجاهل أثره والتعامي عن خطره!". 
لم يتوقف الشيخ الغزالي إذن، كما أشار المقال السابق لصاحب هذه السطور، في وصف البنية الاستبدادية بأنها "وثنية سياسية" إلا أنه أشار، وبجسارة، إلى الدواء المتمثل بالشورى التي لا تستنكف الاقتباس في عالم الوسائل من الاجتهادات الواقعية في المفاهيم والآليات الديمقراطية، كما أنه بالجسارة نفسها لم يستنكف أن يشرع في تقديم النقد الحاد والعميق في التعاطي مع المسألة الشورية "وقد اعترى مبدأ الشورى الإسلامي نقص بالغ، تبعا لطريقة اختيار الحاكم تجسّد في ثلاثة معايب هي؛ "سوء فهم معنى الشورى، وإنشاء أجهزتها المشرفة على شؤون الحكم"، وثانيها "عدم اعتبار مما نتج عن الاستبداد في تاريخ المسلمين"، من غياب مجالس 
الشورى. أما ثالث تلك المعايب "جهل بالأصول الإنسانية التي نهضت عليها الحضارة الحديثة، والرقابة الصارمة التي وضعت على تصرّفات الحكام".
ومجابهة هذه الأزمة المركبة الفكرية العلمية والعملية التشريعية والهيكلية المؤسسية، يفرضها، في تقدير الشيخ الغزالي، مستقبل الإسلام وأمته يقول: "أظننا لن نُحرز نجاحا يُذكر خلال القرن الجديد، إذا بقينا على فقهنا الضيق المحدود الذي عشنا به خلال القرون الأخيرة، فإن هذا الفقه لم يعالج الخلل المتوارث في علاقة الحكومات بالشعوب، ولم يُساند الحريات العامة الصحيحة، ولم يُنمَ القدرات على علاج الأخطاء السياسية والاقتصادية الشائعة في بلادنا، فالأمة الإسلامية أولى أمم الأرض بأن تحتاط ضد الاستبداد السياسي، وأن تمنعه من قتل مستقبلها، بعدما أسقم ماضيها وعرقل خطوها وشلّ رسالتها".
يتفهم هذا التفكير الناقد والواعي والبصير أصل القضية التي مكّنت، ضمن عوامل أخرى، للحالة السياسية والتنظيمية والدستورية، وتوفير بيئة قابلة لحالة استبدادية خطيرة، وجدت للأسف مساحةً ومتكأ لتجد ما يمكن لها الانقضاض على الحالة الشورية في تاريخ المسلمين، بعد مسيرة الحكم الراشد الشوري "وقد ملأ الحكم الفردي أغلب الأقطار قديما، وكافحت شعوب عظيمة حتى نجت منه؛ وإنْ دفعت الثمن غاليا، حتى استردّت حريتها وكسرت قيودها.. وشهدت الإنسانية عصرا من الشورى على عهد الخلافة الراشدة، كان الحاكم فيه نموذجا رفيعا للإنسان الطيب المتواضع، ليّن الجانب، الرحيم بالناس، السليم من علل التطلع والكبر، .. الملتزم بقوله تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا)؛ 
ولم تقم للشورى يومئذ أجهزة دقيقة، لأن طبيعة الحياة كانت تقوم على البساطة. ومع ذلك، فإن أرقى ما وصل إليه "الغرب" في حضارته الإنسانية، أو في فن الحكم، لم يزد عما حققته الخلافة الراشدة"؛ إشارات مهمة إذا يثبتها الشيخ الغزالي في نقده، سواء في ضعف وربما غياب الترجمة المؤسسية للفكرة والقيمة الشورية.
ويواصل الشيخ إشاراته وتنبيهاته كذلك لنقد آخر، لا ينبع من بساطة الطور الحضاري آنذاك في خبرة الخلافة الراشدة، ولكنه، هذه المرّة، يشير إلى النقد الحاد لتشييع بعضهم حالة من غموض المفهوم التي تستغل لمصلحة البنية الاستبدادية.. "إن الاستبداد السياسي داء دوى، وليس أسوأ منه إلا تجاهل أثره والتعامي عن خطره! وللشورى مفهومٌ غامضٌ عند بعض المتحدّثين الإسلاميين، ومفهوم مضاد لحقيقتها عند بعضٍ آخر، ولو وقع زمام الأمور في أيديهم، لأعادوا حكم الملك الغوري في القاهرة، أو السلطان مراد في الآستانة، وأحدّهم ذكاء من يعيد السلطة لصاحب الكلمة الفاجرة: "أمير المؤمنين هذا، فإن هلك فهذا، فمن أبى فهذا"؛ مشيرا إلى سيفه! وهذه الميوعة في مفهوم الشورى الإسلامية لا تزيد المسلمين إلا خبالا وفوضى.. وسببها قلة الفقهاء أو انعدامهم في ميدان الدعوة، وازدحام هذا الميدان بذوي المعلومات الكاسدة أو التجارب القليلة أو الحماس الأجوف.. إن المفروض في الشورى أن تقى الأمة سيئات شتى.. منها إعجاب الغبي برأيه، ورغبته في فرضه على الناس، .. ومنها أن المستبدّين يضعون أنفسهم فوق المسؤولية، إنهم يخطئون الخطأ الرهيب، فإذا افتضحوا كان غيرهم غالبا كبش الفداء، والشورى إذا لم تق الأمة هذا البلاء فلا معنى لها".
وفي الاجتهاد في المجال السياسي والتشكيل المؤسسي الذي يرتبط به، وبما تؤكّده المسيرة 
الاجتهادية في هذا الصدد، مستندة إلى الاعتبارات المقاصدية في الحكم الراشد العادل الفاعل والمتطلبات النظامية والمؤسسية والقواعد والإجراءات الحاكمة والضابطة للعملية السياسية ودينامياتها غير مانعة من الاستفادة مما لدى الغير، إذا كان صالحا، ويحقق مقصود الشرع، كالاجتهادات التي مارسها عمر بن الخطاب، ومن ثم ليس هناك ما "يمنع الفقيه المسلم من قبول كل وسيلة أصيلة أو مستوردة لتحقيق الغايات التي قرّرها دينه؟".. "النقل والاقتباس في شؤون الدنيا، وفي المصالح المرسلة وفي الوسائل الحسّية ليس مباحا فقط، بل قد يرتفع إلى مستوى الواجب "فنظرية الاستخلاف الإسلامية تقتضى عمارة الأرض بالصلاح والخير، بما يدفع الإنسان إلى استثمارها واستغلال منافعها وتسخير مرافقها، بما يكتشف من أسرارها وقوانينها، وما يقيم فيها من عمران وتجهيز يحكم من سيطرته عليها وإخضاعها لإرادته، وقد جمع الله هذه المعاني في قوله تعالى "هو الذي أنشاكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب"، وبات من المعلوم من أسباب التحضّر بالضرورة أن تحصيل هذه الأسرار وما ينبني عليها من منافع خاصة وعامة، بقدر ما يتخذ لها أصحابها من دأبٍ علمي ومعرفي، واحترام لقوانينها الطبيعية، ولذا فكل من حصل على قدرٍ منها أصبح أستاذا لغيره الذي يجب عليه التعلم منه بحرص وانتباه واحترام؛ وهذا ما أدركه السلف، حين أدركوا أهمية النقل عن الآخرين، فيما هو من المصالح المرسلة والوسائل الحسية قضاء لشؤون دنياهم، وتحصيلا لمنافعها المسخّرة لعباد الله، ولعل في نقل نظام الدواوين عن الفرس، أفضل مُتعظ يُتعظ به من سيرتهم الرضية في قيام الدولة على أنظمةٍ حديثةٍ تضبط وظائفها المتنوّعة والمتخصصة"، ".. وتماثل الحال هذا بين الأمم لا يحرم " ناشدي الخير للمسلمين أن يقتبسوا بعض الإجراءات التي فعلتها الأمم الأخرى لما بُليت بمثل ما ابتلينا به خصوصا أن الاستبداد كان الغول الذي أكل ديننا ودنيانا".
هذه الرؤية الناقدة والواعية للحالة الشورية، والتعاطي مع الإشكاليات الحقيقية التي تجابهها، من المسائل الجوهرية التي يجب أخذها في الاعتبار، عند البحث والدرس والممارسات والتطبيق، وهي أمورٌ تتعلق ليس فقط بمنهج النظر في المسألة الاستبدادية وتفكيكها، بل بالمسألة الشورية، وطريقة النظر في فهمها وتطبيقها وتفعيلها وتشغيلها، حتى يكون البناء مكينا رصينا، فاعلا ومؤثّرا ورشيدا.
دلالات
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".